شكرًا ألمانيا .. ومونتيسكيو

30 يونيو 2015
+ الخط -
عندما اقترح مونتسكيو (1689 -1755) مبدأ فصل السلطات، من الركائز الأساسية التي تمكن الإنسان من العيش داخل الدولة بأمان، ومن دون انتهاك حرماته وحرياته، وتمكن الدولة نفسها من السير بشكل جيد وسلس، لم نكن نعلم مدى أهمية كلام الرجل، ومنا من اعتبر فصل السلطات مجرد كلام سطحي، يمكن للدولة أن تستعيض عنه بشيء آخر، ويمكن أن يعيش الفرد في هناء بعيد عنه. والواقع أن هذا الطرح بعيد كل البعد عن الحقيقة.
شكراً مونتيسكيو، لأننا بَعدَ حِين، ومع توالي التجارب التاريخية، خصوصا المأساوية مِنها، وقفنا بالملموس على جدية المبدأ، وتأكدنا فعلاً أنه من الضمانات الأساسية لحقوق الإنسان وحرياته، لاسيما بعد ما ذاقت الشعوب مرارة استبداد أنظمة، ليس آخرها النظام الديكتاتوري النازي، وعندما نعود إلى البحث عن الأسباب الحقيقية التي ساعدت المستبد/ الديكتاتور على استبداده، نجد أن السبب الرئيس هو الجمع بين السلطات، سواء في مؤسسة واحدة أو في شخص واحد، وهذا هو الظلم بعينه.
شكرا ألمانيا التي كانت بالأمس القريب نظاماً ديكتاتورياً ظالما، وأصبحت اليوم من أكبر الدول العادلة في عالمنا الصغير، لا يتسع المجال لذكر الحجج الداعمة لهذا الحكم، لذا نكتفي بالإشارة إلى ما حدث، أخيراً، مع الصحفي أحمد منصور، وهو موقف، في نظري، كان نفعه أكبر من ضرره لألمانيا. وبالنسبة لمنصور، لألمانيا كامل الحق في اعتقال أي مشتبه به داخل ترابها، كيف ما كان، لأن الاعتقال الاحتياطي، منطقياً، ليس إهانة، وليس انتهاكا لحقوق الإنسان، خصوصاً إن احترم المعايير القانونية والإنسانية على حد سواء، وهو بذلك ليس سوى إجراء تحققي مؤقت، لا يسلب حرية الشخص بالمعنى المطلق.
شكراً أحمد منصور، لأنك بينت لنا بالملموس أن العدل في ألمانيا فعل وليس مجرد شعار، وشهدت كمعتقل احتياطي أن المسؤولين لا يتعدون الاختصاصات التي أسندها لهم القانون، وأن كل سلطة تحترم الأخرى، وتحد منها في الوقت نفسه، وأن الشرطة تحترم الإنسان وتعامله بشكل حضاري في حدود السلطة الموكلة إليها.
قبل مونتيسكيو، ربما كانت هناك أنظمة تحترم نفسها، وتفصل السلطات على مر التاريخ، سواء ما قبل الحضارة اليونانية أو ما بعدها، لأن الأمر، في آخر المطاف، يتعلق بمبدأ العدل وليس بشيء آخر، فالنظام العادل لا يجمع كل السلطات في يد واحدة، ومونتيسكيو، شأن ماكيافيلي وثلة من الفلاسفة المحترمين، لم يصغ نظريته حول فصل السلطات إلا بعد قراءة متمعنة في التاريخ القديم والحديث، وملاحظة وتحليل عدد لا يستهان به من الأنظمة، ليتوج هذا التراكم بالكتاب الذي ضمنه النظرية قيد الحديث، وهو "روح القوانين"، سنة 1748، أي قبل 7 سنوات من وفاته.
وربما أكون مخطئاً إن أدرجت قصة وقعت مع علي بن أبي طالب في هذا السياق، بل قد أكون أكثر سذاجة إن صنفت "نظامه" من بين الأنظمة التي كرست مبدأ استقلال السلطة القضائية، قبل أن يتم التحدث عن المبدأ في ما سَيلي من القرون. لكن، أترك لكم الحكم على ما زعمي هذا:
عندما شاهد أمير المؤمنين درعه عند نصراني (وفي رواية أخرى يهودي)، طالبه به، فعندما رفَض، لم يستعمل السلطة، ولا الشطط فيها، بل تقدم بشكاية إلى السلطة القضائية في شخص قاض يُدعى شرَيح، ليقضِي بينها، فقال القاضي: ما تقول يا نصراني؟ أجاب: الدرع درعي، فطالب القاضي عليّا ببَيِّنة (دليل)؟ فعندما لم يجد عليّ قرينة تثبت ادّعاءه، حكم القاضي ببطلان الشكاية، وعدم أخذ الدرع من النصراني، فلم يعترض علي، بل قال راضياً بالحكم: صدق شرَيح، وهنا انتفض النصراني قائلا: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، وأمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه، هي والله، يا أمير المؤمنين، درعك، وقد زالت عن جملك الأورَق فأخذتها، وإني لأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقال علي: أما إذا أسلمت فهي لك. (البيهقي، بتصرف)
السؤال: كيف كان سيشعر الرجل، لو أن عليا لجأ إلى سلطته، واسترجع درعها من دون قضاء؟
41C0FB00-221D-4185-B3D0-EAC995043450
41C0FB00-221D-4185-B3D0-EAC995043450
عماد الورياشي (المغرب)
عماد الورياشي (المغرب)