حصّة الفرد، في عالمنا اليوم، من مزايا الفرديّة هي ذاتها حصته من أعباء الحقيقة. لا أحد يرُغَم على تصديق الأوهام، لكن ثمة من يفضّلها حجباً لنفسه عن جَبْهِ كل ما هو عينيٌّ وماثلٌ أمام النظر.
لقد كان إعلاءُ شأن الفرد أساساً فلسفياً داخل منظومة فكرية سياسية ترى أن النواة أَوْلى بالرعاية من الثمرة الاجتماعية التي هي نتيجةٌ، وليست أساساً، أي أن الأصل هو حماية كل ما هو لصيق بالفرد من حقوق شخصية. فحق الملكية مثلاً وحرية التعبير وإبداء الرأي من دون خشية، ناهيك عن الانتماء السياسي والحق في العمل والتنظيم النقابي وحرية المعتقد، كلّها مبادئُ جوهريةٌ تصون الفرد وتحميه، وهي لذلك تنمي طاقاته وترسخ كيانه الاعتباري، بما يجعل المجتمع مجموعة أفراد مستقلين، لا جمعاً لهم في إطار كمّي على نحو تعسفي أقرب إلى نهج عسكري اعتمدته الأنظمة الشمولية الديكتاتورية.
فالفرد على هذا النحو نوعٌ خالص، أي أنه قيمة في حد ذاته، ولا يمكن حسبانه بمقياس الكمّ، وهو على هذا النحو أيضاً أَولى بالرعاية والاهتمام، بل هو المقياس النزيه الذي تزن به السلطة نجاحها من فشلها في إدارة الشأن العام، إن كانت السلطة بحق تقارن نجاحها العام بأمن ورفاه الفرد الخاص.
للوهلة الأولى نظن أن "الخاص" داخل كل واحدٍ منا، حيزٌ فكري، نفسيٌّ وعملي، وهو مفارقٌ لكل ما هو "عام" طبيعةً. وهذا يبدو بديهياً ومسلماً به؛ إذ ثمة ما يدفع إلى تحصين الخصوصية الفردية هنا جرّاء ومخافة عدوانية كلّ ما يدخل في إطار عمومي، وهي ربما عدوانية وهميّة أو مبالغ بخطورة تقديرها. نعلم أن السلطة عمومية، وأن المجتمع عمومي، وهما بما يفرزانه من ضغوط وقوانين وأعراف، يحدّان من نفوذ كل ما يدخل في حيز الفردي والخاص.
لكن هل هذا التوصيف دقيق حقاً؟
هل الفرديّ، بما هو خصوصية الفرد وعنوان استقلاله، بكل ما يقوم وبه ويصدره وينجزه إنما يكون خارج إطار العام والدارج، وهل تركت شروط العمل وفرص الترقي الاجتماعي، أو انعدامها المستشري المعاصر، والعنف المادي وتغلغل الدعاية الدائم عن سطوتها كلها، وهل في الآن ذاته تخلت السلطات العمومية، دينية كانت أم سياسية، عما يمكن وصفه جزءاً من قوتها وسلطانها لصالح ما هو فردي محض؟
وقياساً على ما سلف من تساؤل، هل الفردي أصلاً قائمٌ على كل ما يخالف العام والشائع، أو ليست الخصوصية وهماً نرفعه مثل قناعٍ أمام وجوهنا. ألا يكسب الفردي نفوذه من الضد من قرينه ومنافسه المحيط به، وبذلك ألا يكون كل ما يقوم به ناشئاً بالأصل مما هو عام، حتى إن كان على الضد منه؟