حومُ رواياتٌ عديدة حول الخَبَر والنّقل، راغبةً بسردٍ يوازي التاريخ ويستعيد الواقع؛ هذا العلم الحزين الطاغي. هكذا يسبق الغرضُ الطريقَ إليه، لذلك يتعثّر به. إنّها روايات تفضل النماذج المسهبة والجاهزة، بقوة ذرف الحقيقة، على التجارب المجهولة والمريرة، وتفضّل الحكمة والوعظ وطرق التلقين، فيتخذ أسلوبُها شكلَ عرضٍ وظيفيّ جامد ومتعالٍ.
تبدو هكذا روايات مفتونة بعرض الحقيقة المجردة، على فرض تماسكها، عن لحم واقعها الممزق، مما يدفع بها إلى برد الحياد النظيف والنائي، وإلى انفصال أسلوبي يدّعي ويحتمي بتقديم الحقيقة الموضوعية. لذلك ربما تقع ضحية موضوعها التاريخي وشغفها بالنسخة الواقعية، فتتشابه وتتوالد، ولا يغدو عديدُها ذا شأن قطّ.
أيمكن القول، على هذا الفرض، إنّ العموميّ من جهة الحقيقة الساكنة، يطغى على الفردي من جهة الحيرة المتحركة؟
***
جزءٌ غير قليل من طرق التدريس الجامعية انتقل إلى أسلوب الرواية، تلك التي خرجت من عدم وجود أسلوب، بل من تمرّد على الصياغة الجامعة والرسمية المترفعة عن الوقائع المضطربة والمنبوذة.
ثمة ورش إبداعية وتلاميذ مطيعون. تلقٍ أخرق وخضوع يسير. كانت تلك الطرق أقرب إلى الوعظ منها إلى الانفلات، وأقرب إلى العرض الممل منها إلى التحليل المركّب. لم تكتشف الرأس عيناً، مثلما لم تقّدم الصفحة غير الحفظ على لسان ظلّ وفياً.
عندما يُقال، مثلاً، إن أحدهم حفظ الدرس عن ظهر قلب، لا يُلتفت إلى خطورة تلك العبارة. فأن تحفظ يشي بأنك محض إناء، وأن الذي امتلأت به ربما لا يعني لك أي شيء، أي شيء قطّ.
***
تكاد المعرفة – المعلومة، وبها ما بها من حصرٍ وتجريدٍ عائمين، أن تتحوّل إلى عماد رواية تفضّل اختصار الشكوى على التجربة والعرضَ على الحفر. الآني يناسب لوعة الشاكي، ولغة العرض تنهل من سرد رتيب، سرد بلا نبض ولا ملموسية مادية.
يتحوّل الخبرُ ولغة الخبرِ المعلوماتية إلى أسلوب سرعان ما يطغى ويتناسل ويغطّي أكثر من اسمٍ بالسمات نفسها، وعن طريق هكذا انتشارٍ وبائيّ يتقلص المجهول المرهون بتجربة هي أصل كل صوت فرديّ. عندما يعرف الراوي ما يقول قبل أن يكتب، إنما ينهي ما يكتب قبل أن يكون.
***
ليست كلّ فضيحة مغرية كي تكون عماد رواية. انتهى زمن الفضائح بعدما التهم عصفُها ندرتَها وشذوذَها. تحلّ الدعوة عقبَ ذبول نارِها، ويتناثر الرمادُ على أيّ وجه. غير أن قوة الاعتراف لا تزال خصبة، شرطَ أن يوازيها الرعبُ الذي أتلفَ نضارتها.
***
لا يكفي إسنادُ التعدّدِ إلى لفظٍ حتى يكمل الغنى (التعدّد) دُوارَه السائحَ. المادة الخامُ تتراكبُ مثلما تشعُّ الكلمة من قبس أخرى تالية. يتحول التجانبُ والتلاقي والمزج إلى نبعٍ. الرَّحبُ يمكث ها هنا في الجوف المعتم، في الرحم الخائضة، داخل الفمِ المتأْتِئ، قبل أن يتحول إلى مشهدٍ، والأخير يرفعُ أسرابَ الداخل إلى خارجٍ، كما ترفعُ الشجرةُ ألف غصنٍ.
***
تفصَلَ الرّوايات عن بعضها كما يَفصِلُ التخصّصُ الفضولَ وينهى اللطفُ الدَّعيُّ عن الجموح فيذوي. عالم الأعمال المعاصر شكلٌ آخر من حبسٍ وحَجرٍ مُسقمَين. ثمة من يسألُ، وهو قريبٌ ولصيق كتفٍ إلى كتفٍ، مقابلَ ذاك الذي يشيح بوجهه بحجة "التخصص" الذي ليس سوى اسم آخر للفقر والعجز، إن لم يكن اسماً آخر للتخلي الطروب عن كلّ شغفٍ وكلّ خلط وكلّ رغبة.
***
لم لا يدرس علماء الاجتماع سيولـ(ة) الراوية؟ هل لأنها لا تفضي إلى رقمٍ، لا تنفع لإحصاء، وبذلك هي ليست دليلاً إلى مجتمعٍ وحاله، طالما رُهن الأخير إلى حصرٍ.
ألا يخفي هذا التساؤل جواباً أو طلباً من الرواية أن تكون مرآةً وعرضَ حالٍ؟ قد تكون أسرارُ أسرةٍ أنجعَ من دراسةٍ قوتها الشرائية، وقد يتضاعف الإلحاح فتأتي الرواية بما يؤمل من الجامعات أن تأتي به، إذا كان لدى الأخيرة ما تجد قوله لطلابها.
***
منذ متى كان الكاتب متفرغاً للكتابة، فصار الطلبُ على التفرّغ ملمحاً عاماً وشاملاً. متى حلت هذه اللعنة المرفهة، هذه الجائحة المشتهاة؟ متى تحوّلت إلى مهنة مَنْ لا مهنة له سواها!