28 يناير 2024
شحاذ يضع شروطا
"شحاد وبشرّط".. قالتها جدتي منذ نصف قرن لأحد الشحاذين الذين قادهم حظهم العاثر إلى مد يده إليها، وخسر ساعة من وقته الثمين كي تخرج له من تلافيف ثيابها المدرعة والمحصنة قرشًا يتيمًا، ومدته إليه بيد مرتعشة ومتردّدة، فاكتست ملامح وجهه بالخيبة، وقال مكتئبًا: "ولو.. قرش فقط يا حجة؟"، فما كان من جدتي غير أن سحبت يدها، وأغلقتها على القرش اليتيم، رافضة إعطاءه إياه، وهي تردد جملتها تلك: "شحاد وبشرّط".
تذكّرت مقولة جدتي، اليوم، مع تكرار زيارات "الجدة الأميركية" إلى منطقتنا لتوزيع "القروش" على بعض دولنا ذات "الأيدي الممدودة" دومًا للشحذة، وتساءلت: "في المقابل، هل يحق للشحاذ أن يفرض شروطًا على المحسن؟.. أعني هل يحق له أن يطلب من المحسن الأميركي أن يسحب قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والتراجع عن قرار نقل سفارته إليها؟".
أتساءل، وفي ذهني تلك الاحتجاجات البائسة التي صدرت عن عواصم عربية على القرار الأميركي، في حين ما تزال تلك الدول حتى الآن تعتاش على المساعدات الأميركية أو على القواعد الأميركية.. هي دول غاطسةٌ حتى النخاع بالعلاقات مع أميركا، ثم تحاول أن تقنع شعوبها بأنها "صاحبة موقف" حيال قرارات ترامب بشأن القدس، ولم يبق، في الواقع، إلا احتجاج آخر أو اثنان، حتى يخضع "المحسن" لشروط الشحاذ.
أما "المحسن" الأميركي، الذي وزّع المساعدات المالية، فيقال إنه كان ما إن يسمع من أي مسؤول عربي "وشوشةً" على استحياء بشأن القدس، حتى يردّد بوقاحة: "شحاد وبشرّط"، بل هو يرى أن من حقه أن يقود الشحاذين إلى أي طاولة مفاوضات يشاء، ما داموا لا يتقنون غير سياسة "مد الأيدي".. وما دامت "صدقته جارية"، هذا طبعًا بعد أن أمرهم بعدم الإتيان على ذكر مدينة القدس ألبتة، في أثناء التداول بشأن قضايا "الخلاف"، إذ لم يعد هناك خلاف بشأن تبعيتها لإسرائيل بعد اليوم، كما قال ترامب.
في عمّان، مثلًا، التي كانت من أشد منتقدي قرار ترامب بشأن القدس، جاءت التصريحات الصادرة عن مسؤولين أردنيين عقب زيارة "راعيين" أميركيين أخيرا إلى الأردن، لتشير إلى "عمق العلاقات وقوتها بين البلدين"، وإلى "حجم المساعدات التي سيتلقاها الأردن من الولايات المتحدة هذا العام".
أما في عواصم عربية أخرى، كالرياض والقاهرة وأبوظبي، فلم تكن مواقفها بشأن القدس تحتاج إلى أي "تنفيس"؛ لأنها كانت ملتصقة بالأرض، أصلًا، وحكامها مقتنعون بأن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، قبل القرار الأميركي حتى، بل ربما كانوا هم من دفع وسهل اتخاذ هذا القرار أميركيًا، وحكام هذه العواصم لا تشملهم مقالتي هذه، بعد أن غسلتُ يدي منهم.
في المقابل، أتساءل عن عواصم أخرى أتخمتنا بمواقف مبدئيةً عن القدس، واستحالة التفريط بها، لكنها سرعان ما انحنت لرعاة البقر الأميركيين حين زاروها، ومن حقي أن أتساءل: كيف يمكن لأي دولةٍ عربية أن تعارض قرارًا أميركيًا، وهي تحتفل وترقص فرحًا بالمساعدات الأميركية؟.. وكيف يمكن أن أصدق أن في مقدور هذه الدول أن تقف موقفًا مبدئيًا ضد قرار ترامب، فيما تمد يد الاستجداء إلى أميركا طلبًا للمساعدة؟
لكن، على الرغم من ذلك كله، يعجبني في "المحسن" الأميركي أنه ما يزال يستخدم مع الشحاذين العرب سياسة "العصا والجزرة". ولا أدري، فعلًا، ما حاجته إلى استخدام الجزرة، أصلًا، بعد أن دالت لعصاه معظم العواصم العربية، وأصبح بعضها جزءًا عضويًا في ترس الإمبريالية الأميركي ذاته، كـ"الولايات الإماراتية المتحدة"؟
عمومًا، سوف يأتي اليوم الذي يفعل فيه "المحسن الأميركي" كما فعلت جدتي. بل أزيد من ذلك، أراهن أنه سيعيد "القرش" إلى جيبه، حتى قبل أن يشترط الشحاذ شيئًا.
تذكّرت مقولة جدتي، اليوم، مع تكرار زيارات "الجدة الأميركية" إلى منطقتنا لتوزيع "القروش" على بعض دولنا ذات "الأيدي الممدودة" دومًا للشحذة، وتساءلت: "في المقابل، هل يحق للشحاذ أن يفرض شروطًا على المحسن؟.. أعني هل يحق له أن يطلب من المحسن الأميركي أن يسحب قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والتراجع عن قرار نقل سفارته إليها؟".
أتساءل، وفي ذهني تلك الاحتجاجات البائسة التي صدرت عن عواصم عربية على القرار الأميركي، في حين ما تزال تلك الدول حتى الآن تعتاش على المساعدات الأميركية أو على القواعد الأميركية.. هي دول غاطسةٌ حتى النخاع بالعلاقات مع أميركا، ثم تحاول أن تقنع شعوبها بأنها "صاحبة موقف" حيال قرارات ترامب بشأن القدس، ولم يبق، في الواقع، إلا احتجاج آخر أو اثنان، حتى يخضع "المحسن" لشروط الشحاذ.
أما "المحسن" الأميركي، الذي وزّع المساعدات المالية، فيقال إنه كان ما إن يسمع من أي مسؤول عربي "وشوشةً" على استحياء بشأن القدس، حتى يردّد بوقاحة: "شحاد وبشرّط"، بل هو يرى أن من حقه أن يقود الشحاذين إلى أي طاولة مفاوضات يشاء، ما داموا لا يتقنون غير سياسة "مد الأيدي".. وما دامت "صدقته جارية"، هذا طبعًا بعد أن أمرهم بعدم الإتيان على ذكر مدينة القدس ألبتة، في أثناء التداول بشأن قضايا "الخلاف"، إذ لم يعد هناك خلاف بشأن تبعيتها لإسرائيل بعد اليوم، كما قال ترامب.
في عمّان، مثلًا، التي كانت من أشد منتقدي قرار ترامب بشأن القدس، جاءت التصريحات الصادرة عن مسؤولين أردنيين عقب زيارة "راعيين" أميركيين أخيرا إلى الأردن، لتشير إلى "عمق العلاقات وقوتها بين البلدين"، وإلى "حجم المساعدات التي سيتلقاها الأردن من الولايات المتحدة هذا العام".
أما في عواصم عربية أخرى، كالرياض والقاهرة وأبوظبي، فلم تكن مواقفها بشأن القدس تحتاج إلى أي "تنفيس"؛ لأنها كانت ملتصقة بالأرض، أصلًا، وحكامها مقتنعون بأن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، قبل القرار الأميركي حتى، بل ربما كانوا هم من دفع وسهل اتخاذ هذا القرار أميركيًا، وحكام هذه العواصم لا تشملهم مقالتي هذه، بعد أن غسلتُ يدي منهم.
في المقابل، أتساءل عن عواصم أخرى أتخمتنا بمواقف مبدئيةً عن القدس، واستحالة التفريط بها، لكنها سرعان ما انحنت لرعاة البقر الأميركيين حين زاروها، ومن حقي أن أتساءل: كيف يمكن لأي دولةٍ عربية أن تعارض قرارًا أميركيًا، وهي تحتفل وترقص فرحًا بالمساعدات الأميركية؟.. وكيف يمكن أن أصدق أن في مقدور هذه الدول أن تقف موقفًا مبدئيًا ضد قرار ترامب، فيما تمد يد الاستجداء إلى أميركا طلبًا للمساعدة؟
لكن، على الرغم من ذلك كله، يعجبني في "المحسن" الأميركي أنه ما يزال يستخدم مع الشحاذين العرب سياسة "العصا والجزرة". ولا أدري، فعلًا، ما حاجته إلى استخدام الجزرة، أصلًا، بعد أن دالت لعصاه معظم العواصم العربية، وأصبح بعضها جزءًا عضويًا في ترس الإمبريالية الأميركي ذاته، كـ"الولايات الإماراتية المتحدة"؟
عمومًا، سوف يأتي اليوم الذي يفعل فيه "المحسن الأميركي" كما فعلت جدتي. بل أزيد من ذلك، أراهن أنه سيعيد "القرش" إلى جيبه، حتى قبل أن يشترط الشحاذ شيئًا.