ما إن اندلعت الثورة السورية على أيدي الشبان المطالبين بالحرية، حتى بدأت شخصيات معارضة معمّرة سياسياً بالتوافد إلى صفوفها ليحجزوا مكاناً لهم قبل غيرهم في هذه الحدث التاريخي. كانت الثورة بالنسبة لهم فرصة لتذكير الناس بمشوارهم النضالي والممارسات التعسفية، التي تعرضوا لها من قبل نظام آل الأسد. لكن المعارضة تناست في خضم هذه الهواجس أنها أمام ثورة شبابية ولا ينبغي التعامل معها بأدوات الماضي، الأمر الذي جعل كهول المعارضة يقومون بعملية إعادة تدوير فاشلة للفكر والعمل السياسي الذي ما زالوا يختزنونه في ذاكرتهم، مدفوعين برغبة فردية في استعادة أمجادهم السياسية. لذا تعاملت المعارضة مع الكوادر الشبابية كمطيّة لتتصدر الموقف السياسي لوحدها، ومارست هوايتها في تكرار شعاراتها القديمة.
تعددت التنظيمات والمعارضة واحدة
وبنظرة لا تحتاج إلى الكثير من التدقيق على واقع عمل وعلاقات التنظيمات السياسية التي انبثقت عن الثورة، يلحظ أن الأسماء نفسها تتكرر في كل تنظيم وكل مؤتمر يتم تشكيله. وكان حضور الشباب في المؤتمرات والهيئات المنبثقة عن الثورة مجرد واجهة إعلامية غير فاعلة. هم عمليا كانوا أشبه بالوقود، الذي استخدمته المعارضة على طريقها إلى السلطة.
وفي السنة الأولى للثورة لم تتوانَ المعارضة وبشكل دائم في ذكر أن كوادرها شابة بإيقاع لا يخلو من التباهي، وبأنها جاءت لتحقق مطالبهم، في محاولة لاكتساب شرعيتها من الثوار الفاعلين على الأرض. وبالفعل شاهدنا انخراطا لا بأس به من قبل الفئات الشابة في التشكيلات السياسية، لكن ما لبث الكثير من الشباب أن أحسوا بإقصاء أصواتهم من جانب المعارضة، ولاحظوا يوماً بعد يوم تغييبهم بشكل واضح عن المراكز الأساسية في العمل السياسي، مما أدى إلى انسحابات جماعية شهدتها غالبية التكتلات من طرف كوادرها الشبابية.
وبعد أكثر من ثلاثة أعوام من عمر الثورة، وسيطرة النظرة السياسية المراهقة على المشهد السياسي برمته، وانتقال العديد من الناشطين إلى بلدان الجوار، وخصوصاً تركيا، لا سيما بعد سيطرة التنظيمات الجهادية على العديد من المناطق وقيامها بتصفيتهم، الأمر الذي دفع المعارضة لاستثمارهم في تقوية صلاتها بالداخل الذي تدّعي تمثيله، ونتيجة فقدان ثقة الشباب بالمعارضة والأوضاع المعيشية السيئة، انصرف غالبيتهم للعمل في المنظمات الدولية أو العمل على مشاريع خاصة بهم هدفها الكسب المادي ناثرين أحلامهم في بلاد اللجوء.
الحماس والاندفاع فقط لا يصنعان ثورة ناجحة
تميز الحراك الثوري السوري بانتشار أفقي واسع، لا سيما في الأشهر الستة الأولى. هذا الحماس جاء نتيجة مراقبة الشباب السوري لثورات الربيع العربي، في تونس ومصر تحديدا، والتي استطاعت إسقاط أنظمتها بسرعة غير متوقعة. هذا الانتصار السريع للثورتين التونسية والمصرية أكسب الثوار السوريين حماسة ممزوجة باندفاع عاطفي جعلهم يستسهلون الأمر. وكان غالبية الناشطين حينها مؤمنين بأن النظام لن يصمد أكثر من ستة أشهر أو سنة على الأكثر، حيث كانت الثورة في نظرهم عبارة عن مظاهرات شعبية وتنديد بالنظام ومطالبة بإسقاطه، وبعد أشهر يسقط النظام وتنتهي الحكاية. وكأن القصة عبارة عن تكتيك معين يتناقله الثوار من بلد لبلد بغضّ النظر عن طبيعة كل دولة ودور نظامها في المنطقة. وأيضا من أفكار الانتصار السريع، محاولة اقتحام الساحات العامة والاعتصام بها والهجوم على المقارّ الحكومية، وغيرها من الأفكار التي قوبلت بوحشية كبيرة من قبل الأجهزة الأمنية وزادت في إراقة الدم السوري أكثر.
هذا الكلام لا يقلل من الاحترام لحماسة الشباب وتضحياتهم. ولكن بالحماس والاندفاع فقط لا تنتصر الثورات. وهذا ما كان من المفترض أن تلتقطه المعارضة. بالمقابل لا نستطيع إلقاء اللوم على الشباب، فغياب الحياة السياسية والعمل المؤسساتي المنظم هو الذي جعل الشباب لا يعون أن السياسة هي علم لا بد من تعلمه وإتقانه، وأول مبدأ في هذا العلم هو الاستفادة من تجارب الآخرين (أي المعارضة) وعدم تكرارها. فكما أن المعارضة كانت تعتقد أن طائرات الناتو ستسقط النظام، ومن ثم يعودون للبلد للعب دور المنتصر، كذلك الشباب اعتقدوا أن إعادة انتاج ممارسات الثوار في البلدان الأخرى سيحقق الغاية المرجوة، ألا وهي الحرية.
كان على هذه المعارضة أن تدرك أنها تتعامل مع نظام مشهود له بالمكر السياسي، وأن تضع أحقادها تجاه النظام جانباً وتتعامل مع الثورة كحدث جديد له ظروفه وحيثياته. لكنهم حولوا الثورة إلى ردة فعل غاضبة ناتجة عن المظالم والأحقاد التي يحملونها ضد النظام.
الثورة حاليا في حاجة إلى شبابها، وإلى نقلة نوعية في أسلوبية العمل السياسي. والشباب بحاجة إلى جهة تتمتع بالعمق والنضج الكافي لتعيده إلى مضمار الثورة. صحيح أن الثورة تعثرت كثيراً، لكن الواقع الحالي، بما يشوبه من تفتت مجتمعي وطائفية، ما زال مفتوحا أمام احتمالات تجدد ثورة الشباب.
*سورية