إنه خلفي تماماً، يفصلنا مقدار خطوة لا أكثر.
لا أشعر بمدى دنوه مني في البداية، فقط عندما يوشوشني بأن المنحوتة الفرعونية التي أمامي تعود إلى المملكة الحديثة. أدرك كم هو قريب. أكاد أحسّ بدفء أنفاسه في برد القاعة. رطوبة يخلفها همسه على رقبتي من الخلف. ونفحة من رائحة معجون أسنانه مختلطة بحموضة فمه تلتقطها سريعاً فتحتا أنفي.
أقترب من صندوق العرض وأنحني، أحاول أن أتبين تفاصيل المنحوتة من خلال الزجاج غير العاكس. جسدها ملموم على نفسه. "تعرف كيف تحتوي نفسها جيداً تلك السيدة". أقول له. تجلس القرفصاء، وتحتضن ساقيها المثنيتين بذراعين قصيرتين نسبياً، تطلّ أصابع قدميها العريضتين من تحت تنورتها المزينة برموز هيروغليفية، تذكرني خطوطها بأعمال التجريديين الأوروبيين.
"ينسبون لأنفسهم تحديث الفن والرمزية والتجريد، لكن نحن سبقناهم إليها بآلاف السنوات، انظري جيداً!" ينبهني بنبرة الأستاذ. أجد صعوبة في التركيز في ما يقول.
تستغرقه المنحوتة للحظات. "ألا تظن بأنها تشبهني؟" أسأله. لا يبدو أن سؤالي يباغته، ينقل عينيه بتلقائية بيني وبين الفتاة بتسريحة شعرها الذي حافظ على سواده، ربما بهت قليلاً، لكن القرون الطويلة التي مضت لم تتمكن من محوه تماماً. وبعد تمعن دام للحظات يجيبني: "ربما… لو كانت غرتك مستوية في خط مستقيم مثلها.. هكذا". وخلال جزء من الثانية تكون راحة يده في مستوى وجهي، يقرّب سبابته من جبهتي ليبين لي الطول المناسب، لكنها لا تمسّ بشرتي، تقترب كثيراً من دون أن تمسني.
أتجه لبطاقة المعلومات، لا لقراءة شيء، لكن رغبة مني في زيادة المسافة بيني وبينه.
"ما رأيكِ؟" يسأل باهتمام، أظن بأن الفتاة حزينة. لكني لا أقول له ذلك.
يقودني إلى هدوء وظلمة القاعة التالية.
صور أرشيفية تتوالى على أحد جدرانها لكنها بالأبيض والأسود. نقف أمام صندوق زجاجي للمشاهد التاريخية، يحوي أوراقاً ووثائق، ضوء حاد يساهم في إبراز الشقوق التي على أطراف الورق واصفرارها. أقترب لأرى رسماً كاريكاتيرياً فتصطدم سلسلة حقيبتي المعدنية بالزجاج مصدرة ضجة كبيرة. أجفل مبتعدة، ويقترب أحد الحراس وقد عقد حاجبيه لينبهني. الدم يندفع إلى وجهي وأتخيل منظره وقد تحول لحبة طماطم. لا بأس، أهوّن على نفسي الأمر. لا أحد غيرنا هنا، أنظر إليه بطرف عيني، إنه يحبس ضحكته، أبتسم له، فيطلقها مقهقهاً بحذر.
اقرأ أيضًا: كليوباترا لا تسكن الهرم
نتجه لقاعة أخرى، يجذبني بروفيل لفتاة، أميّز عينيها الواسعتين. أغذ السير في اتجاهها، "أعرف الرسام!" أقول له بحماس وسرعة في محاولة لأن أستبق نبذته التعريفية. "إنه كيس فان دونغان". يرفع حاجبيه معجباً كمعلم يرى ثمرة دروسه أخيراً. الخطوط العريضة السوداء وجسد الفتاة الطحلبي الأخضر لا يفقدان اللوحة دفئها. الرموش أقرب لشوك صبارة وتموجات الشعر أشبه بنار موقدة.
نقف متجاورين. ولا يفصلنا مرة أخرى سوى مقدار خطوة.
يذكرني بصورة ملونة باليد، لتمثال نفرتيتي استقبلتنا في بداية المعرض، ملكة حتى في المهجر. "ألا تشبهها صديقتنا هذه؟". ربما، لكني في الواقع مشغولة بشيء آخر، بمعالم مدينة البندقية في خلفية البورتريه. آه، أظن أنها من المدن التي سأصاب بخيبة أمل عندما أزورها، لكثرة ما قرأت عنها ورأيتها في اللوحات. أنا في الواقع صرت أفضل الحمام على باقي الطيور لأنه رمز من رموز المدينة العائمة.
أقول له بأني أحب الحمام. لا يبدو أنه يعي الرابط بينهما، لكنه يهز رأسه موافقاً. وأكشف عن عنقي، مبعدة ياقة القميص، وأرفع رأسي للأعلى، أجاهد في مد رقبتي. "أعتقد أن عنقي أطول منها!". لا يعلق، يبتسم وهو ينظر إليّ فقط.
يربكني الصمت بيننا. أتركه متجهة لقاعة أخرى.
يلحق بي بتباطؤ، ويمد يده عندما يصير على مساقة قريبة مني ليسحب السلسلة المعدنية لحقيبتي ويجذبني إليه. أرجع خطوتين إلى الوراء، يحيط خصري بذراعه للحظة، فلا أجفل ولا أبتعد. لكني أبطئ من خطوي محاكية صمت المكان.
خطوة واثنتان وثلاث، ويلوح لنا ظل رجل الأمن مقبلاً من عتمة المدخل. فأبتعد مرتبكة، وهو يحرر خصري بالسرعة نفسها.
"هنا حورس وأنوبيس كما تلاحظين، في جولة روتينية للقاهرة الإسلامية". يقولها ضاحكاً، "تخيلي! لو كانت الآلهة تتمشى بيننا نحن الفانين بهذه البساطة".
"فكرة رائعة". أجيب، وأنا أفكر في الكهرباء المنبعثة من راحة يده. "ماذا بعد؟" أسأله. يقول لي إن هناك فيلماً قصيراً ربما سيعجبني، لكني كنت أعني شيئاً آخر.
بعد معرفة دامت بيننا لأكثر من ثلاث سنوات، هذه أوّل مرة يقترب مني بهذه الطريقة.
هل سيحضنني الآن؟ أفكر. هل سيقبلني؟ كم تمنيت لو يفعل. أقول لنفسي مراراً: "لو يقبلني الآن… لو يقبلني". وأنا أحدق في عين أنوبيس المكحولة بماء الذهب.
ندخل إلى صالة مظلمة تعرض فيديو قصيراً لفنان معاصر.
المقاعد السوداء الأربعة ملائمة، كما لو كنا في سينما حقيقية. نجلس جنباً إلى جنب في عتمة القاعة الخاوية. أضع حقيبتي على الأرض، وأتعمد هذه المرة أن أقترب منه أكثر. أميل عليه لأسأله بصوت خافت عن الفنان صاحب العمل. أهمس له حتى لا أزعج الزوار غير المرئيين.
هل سيحافظ على المسافة بيننا أم سيدنو أكثر؟ إنه يحدثني مستخدماً يديه. يطوحهما في الهواء، هل يريد أن أقدر لياقة يده وجمال أصابعه؟ لا أسمع شيئاً، أرى فقط شفتيه الشهوانيتين تتحركان بتناغم مع حركة أصابع يديه.
ينظر إلى الأرض محاولاً أن يتذكر اسم فنان ما، أو اسم متحف في أوروبا. أطرق ببصري أيضاً وأسرح في حذائه الرياضي المراهق، وأشتهي لو أن قدميه تقتربان من قدميّ. يضع ساقاً على أخرى. ويسألني عن شيء لكني لا أجيبه إلا بهمهمات مبهمة.
ينتهي العرض وتظهر أسماء العاملين فيه، ويعود الفيلم مرة أخرى، منذ البداية. يلذّ لي الاسترخاء قريباً منه، ولا رغبة لدي بمغادرة المقعد.
(قاصة قطرية)
*عنوان معرض أقيم في متحف الفن الحديث في الدوحة (المتحف) في الفترة الواقعة بين نوفمبر 2012 ولغاية مارس 2013.
لا أشعر بمدى دنوه مني في البداية، فقط عندما يوشوشني بأن المنحوتة الفرعونية التي أمامي تعود إلى المملكة الحديثة. أدرك كم هو قريب. أكاد أحسّ بدفء أنفاسه في برد القاعة. رطوبة يخلفها همسه على رقبتي من الخلف. ونفحة من رائحة معجون أسنانه مختلطة بحموضة فمه تلتقطها سريعاً فتحتا أنفي.
أقترب من صندوق العرض وأنحني، أحاول أن أتبين تفاصيل المنحوتة من خلال الزجاج غير العاكس. جسدها ملموم على نفسه. "تعرف كيف تحتوي نفسها جيداً تلك السيدة". أقول له. تجلس القرفصاء، وتحتضن ساقيها المثنيتين بذراعين قصيرتين نسبياً، تطلّ أصابع قدميها العريضتين من تحت تنورتها المزينة برموز هيروغليفية، تذكرني خطوطها بأعمال التجريديين الأوروبيين.
"ينسبون لأنفسهم تحديث الفن والرمزية والتجريد، لكن نحن سبقناهم إليها بآلاف السنوات، انظري جيداً!" ينبهني بنبرة الأستاذ. أجد صعوبة في التركيز في ما يقول.
تستغرقه المنحوتة للحظات. "ألا تظن بأنها تشبهني؟" أسأله. لا يبدو أن سؤالي يباغته، ينقل عينيه بتلقائية بيني وبين الفتاة بتسريحة شعرها الذي حافظ على سواده، ربما بهت قليلاً، لكن القرون الطويلة التي مضت لم تتمكن من محوه تماماً. وبعد تمعن دام للحظات يجيبني: "ربما… لو كانت غرتك مستوية في خط مستقيم مثلها.. هكذا". وخلال جزء من الثانية تكون راحة يده في مستوى وجهي، يقرّب سبابته من جبهتي ليبين لي الطول المناسب، لكنها لا تمسّ بشرتي، تقترب كثيراً من دون أن تمسني.
أتجه لبطاقة المعلومات، لا لقراءة شيء، لكن رغبة مني في زيادة المسافة بيني وبينه.
"ما رأيكِ؟" يسأل باهتمام، أظن بأن الفتاة حزينة. لكني لا أقول له ذلك.
يقودني إلى هدوء وظلمة القاعة التالية.
صور أرشيفية تتوالى على أحد جدرانها لكنها بالأبيض والأسود. نقف أمام صندوق زجاجي للمشاهد التاريخية، يحوي أوراقاً ووثائق، ضوء حاد يساهم في إبراز الشقوق التي على أطراف الورق واصفرارها. أقترب لأرى رسماً كاريكاتيرياً فتصطدم سلسلة حقيبتي المعدنية بالزجاج مصدرة ضجة كبيرة. أجفل مبتعدة، ويقترب أحد الحراس وقد عقد حاجبيه لينبهني. الدم يندفع إلى وجهي وأتخيل منظره وقد تحول لحبة طماطم. لا بأس، أهوّن على نفسي الأمر. لا أحد غيرنا هنا، أنظر إليه بطرف عيني، إنه يحبس ضحكته، أبتسم له، فيطلقها مقهقهاً بحذر.
اقرأ أيضًا: كليوباترا لا تسكن الهرم
نتجه لقاعة أخرى، يجذبني بروفيل لفتاة، أميّز عينيها الواسعتين. أغذ السير في اتجاهها، "أعرف الرسام!" أقول له بحماس وسرعة في محاولة لأن أستبق نبذته التعريفية. "إنه كيس فان دونغان". يرفع حاجبيه معجباً كمعلم يرى ثمرة دروسه أخيراً. الخطوط العريضة السوداء وجسد الفتاة الطحلبي الأخضر لا يفقدان اللوحة دفئها. الرموش أقرب لشوك صبارة وتموجات الشعر أشبه بنار موقدة.
نقف متجاورين. ولا يفصلنا مرة أخرى سوى مقدار خطوة.
يذكرني بصورة ملونة باليد، لتمثال نفرتيتي استقبلتنا في بداية المعرض، ملكة حتى في المهجر. "ألا تشبهها صديقتنا هذه؟". ربما، لكني في الواقع مشغولة بشيء آخر، بمعالم مدينة البندقية في خلفية البورتريه. آه، أظن أنها من المدن التي سأصاب بخيبة أمل عندما أزورها، لكثرة ما قرأت عنها ورأيتها في اللوحات. أنا في الواقع صرت أفضل الحمام على باقي الطيور لأنه رمز من رموز المدينة العائمة.
أقول له بأني أحب الحمام. لا يبدو أنه يعي الرابط بينهما، لكنه يهز رأسه موافقاً. وأكشف عن عنقي، مبعدة ياقة القميص، وأرفع رأسي للأعلى، أجاهد في مد رقبتي. "أعتقد أن عنقي أطول منها!". لا يعلق، يبتسم وهو ينظر إليّ فقط.
يربكني الصمت بيننا. أتركه متجهة لقاعة أخرى.
يلحق بي بتباطؤ، ويمد يده عندما يصير على مساقة قريبة مني ليسحب السلسلة المعدنية لحقيبتي ويجذبني إليه. أرجع خطوتين إلى الوراء، يحيط خصري بذراعه للحظة، فلا أجفل ولا أبتعد. لكني أبطئ من خطوي محاكية صمت المكان.
خطوة واثنتان وثلاث، ويلوح لنا ظل رجل الأمن مقبلاً من عتمة المدخل. فأبتعد مرتبكة، وهو يحرر خصري بالسرعة نفسها.
"هنا حورس وأنوبيس كما تلاحظين، في جولة روتينية للقاهرة الإسلامية". يقولها ضاحكاً، "تخيلي! لو كانت الآلهة تتمشى بيننا نحن الفانين بهذه البساطة".
"فكرة رائعة". أجيب، وأنا أفكر في الكهرباء المنبعثة من راحة يده. "ماذا بعد؟" أسأله. يقول لي إن هناك فيلماً قصيراً ربما سيعجبني، لكني كنت أعني شيئاً آخر.
بعد معرفة دامت بيننا لأكثر من ثلاث سنوات، هذه أوّل مرة يقترب مني بهذه الطريقة.
هل سيحضنني الآن؟ أفكر. هل سيقبلني؟ كم تمنيت لو يفعل. أقول لنفسي مراراً: "لو يقبلني الآن… لو يقبلني". وأنا أحدق في عين أنوبيس المكحولة بماء الذهب.
ندخل إلى صالة مظلمة تعرض فيديو قصيراً لفنان معاصر.
المقاعد السوداء الأربعة ملائمة، كما لو كنا في سينما حقيقية. نجلس جنباً إلى جنب في عتمة القاعة الخاوية. أضع حقيبتي على الأرض، وأتعمد هذه المرة أن أقترب منه أكثر. أميل عليه لأسأله بصوت خافت عن الفنان صاحب العمل. أهمس له حتى لا أزعج الزوار غير المرئيين.
هل سيحافظ على المسافة بيننا أم سيدنو أكثر؟ إنه يحدثني مستخدماً يديه. يطوحهما في الهواء، هل يريد أن أقدر لياقة يده وجمال أصابعه؟ لا أسمع شيئاً، أرى فقط شفتيه الشهوانيتين تتحركان بتناغم مع حركة أصابع يديه.
ينظر إلى الأرض محاولاً أن يتذكر اسم فنان ما، أو اسم متحف في أوروبا. أطرق ببصري أيضاً وأسرح في حذائه الرياضي المراهق، وأشتهي لو أن قدميه تقتربان من قدميّ. يضع ساقاً على أخرى. ويسألني عن شيء لكني لا أجيبه إلا بهمهمات مبهمة.
ينتهي العرض وتظهر أسماء العاملين فيه، ويعود الفيلم مرة أخرى، منذ البداية. يلذّ لي الاسترخاء قريباً منه، ولا رغبة لدي بمغادرة المقعد.
(قاصة قطرية)
*عنوان معرض أقيم في متحف الفن الحديث في الدوحة (المتحف) في الفترة الواقعة بين نوفمبر 2012 ولغاية مارس 2013.