قبيل مغيب الشمس بدقائق يكون "سيد اللبن" قد طاف على معظم زبائنه، عبر عربة "كاروا" صنعت يدوياً من الخشب بإطارين يجرها حمار؛ ليبيع لهم اللبن الذي يمثل عنصراً أساسياً في صناعة "شاي المغرب" الذي اشتهر به السودانيون، وشكل جزءاً من حياتهم وأصالتهم وتقاليدهم الجماعية عبر اللمّة الحلوة.
و"شاي المغرب" عبارة عن شاي يمزج مع الحليب، ويقدم عبر طقوس خاصة يشترط فيها اجتماع جميع أفراد العائلة السودانية، فضلاً عن الجيران والأصدقاء، إذ يمثل منبراً للتلاقي والنقاشات في شتى مناحي الحياة بما فيها السياسية.
ورغم تسارع وتيرة الحياة والظروف الاقتصادية وتغيير تركيبة الغذاء، فضلاً عن الحداثة لا يزال عدد من السودانيين يحتفظ بتقليد "شاي المغرب" كعامل أساسي للترابط الاجتماعي في العاصمة والولايات، وإن كان تراجع في الأولى بشكل كبير بسبب زحمة الحياة.
وأخذ "شاي المغرب"، دون غيره من أنواع الشاي، طابعاً خاصاً ومميزاً. ونظمت في مدحه قصائد تؤكد على قدسيته وأهميته كعامل للترابط الاجتماعي، على شاكلة "ساعة المغيرب كل بيت أهلو إتلموا.. على صحنا فيه الزلابية يقُرضوا. وفي إيدم الشاي اب لبن شاي المغيرب.. الفي البلد يتعدى من ضمن السنن".
إلى جانب شاي المغرب، يوجد "شاي الصباح "؛ وهو عبارة عن شاي باللبن أيضاً، ولكنه عادة يقتصر على الأسر داخل المنزل فقط نسبة لتوقيته مع الفجر. ويأتي كذلك شاي الفطور، وهو شاي دون حليب، وثم شاي الغداء وشاي العصر.
وفي السودان عادة ما تتم الزيارات بين الأقارب والجيران في وقت "شاي المغرب". وتقول آمنة لـ "العربي الجديد ": "في أسرتنا نحرص على شاي المغرب؛ وهو بمثابة وجبة عشاء لنا، ونحرص أن تتجمع كل الأسرة أمام مائدة الشاي". وتضيف "ونادراً ما يقتصر تناول الشاي على الأسرة، إذ يستحيل ألا يكون بيننا أحد الجيران أو الأصدقاء أو الأقارب". وتردف "لشاي المغرب طعم وحميمية خاصة والكل يحرص عليه".
أما محمد فيقول لـ "العربي الجديد": "ما زالنا نهتم بشاي المغرب، لكنني شخصياً نادراً ما أصادفه مع العائلة بسبب مشاغل الحياة". ويضيف "في وقت شاي المغرب أكون في حالة بحث عن المواصلات".
اقرأ أيضا:الخرطوم: قهوة "أثني" تجمع السيّاح والسياسيين والشعراء
مع التطور الطبيعي، بدأ "سيد اللبن" يختفي تدريجياً ليظهر "سيد اللبن الحديث"، الذي يقوم بتوزيع الحليب عبر عربة "بوكس"، كما ظهر "لبن البودرة" المستورد والمحلي بشتى أنواعه، واختفت الأغنام التي كانت تحرص الأسر حتى في العاصمة على تربيتها داخل المنازل؛ للاستفادة من حليبها في عمل "شاي المغرب والصباح".
ويقول أستاذ الثقافة السودانية في جامعة الخرطوم، البرفسور محمد المهدي بشري، لـ "العربي الجديد" إن الشاي عموماً دخل السودان من مئات السنين، وأدخله التجار الهنود. ويوضح "كما أن اللبن عند السودانيين يمثل حضارة قديمة". ويذكر أن "شاي المغرب انتشر لدى المجتمعات الزراعية عموماً". ويوضح "فالمزارعون عندما يعودون من مناطق الزراعة يعمدون إلى حلب الأبقار التي توفر ألباناً بكميات كبيرة، يستغلونها في صنع الشاي باللبن". وأكد أن منطقة "البرامكة " في غرب السودان تشتهر بالشاي، وتعد له طقوساً خاصة تتصل بطريقة مسك الكباية وارتشاف الشاي؛ وهو ما يسمى "بالحريص"؛ "أي من لا يصدر صوتاً عند ارتشاف الشاي". ويضيف كما أن مناطق الدناقلة في شمال السودان تشتهر أكثر بشاي المغرب، والذي ظل عادة أصيلة في جميع مناطق السودان.
ويقول الخبير بالإرث السوداني عبدالمطلب الفحل لـ "العربي الجديد" من الصعب تحديد من أين جاء تقليد "شاي المغرب"، لكنه في الواقع يمثل نوعاً من "الحنية"، إذ تحرص الأسر أن يقدم في وجود الأسرة متكاملة، وبعض الجيران والأصدقاء والأقارب. ويوضح "ويُضفى على جلسات شاي المغرب نوع من المودة والحميمية؛ ليشكل بذلك شكلاً من أشكال الترابط الاجتماعي القوي". ويضيف "حالياً أنا وثلاثة من جيراني اتفقنا على إحياء سنة شاي المغرب بأن نتبادل الزيارات كل يوم إثنين في منازل بعضنا، ونشرب سوياً شاي المغرب بالزلابية".
ويتابع "ليس الهدف شرب والشاي، وإنما القيمة الاجتماعية". وأكد أن التقليد تراجع باستثناء المناطق الريفية والرعوية، بسبب تغول الحداثة والانشغال بهموم الحياة، فضلاً عن وسائل التواصل الحديثة "فيسبوك وواتساب وتويتر" التي جمدت العلاقات الإنسانية وشغلت البعض.
اقرأ أيضا:المطبخ السوداني ابن بيئته ومرآتها