شاهندة مقلد... الثورة قصة حب

08 مارس 2014
من أجل هؤلاء ثارت شاهندة
+ الخط -

الاسم يشي بأرستقراطية ما تظهر في إيقاع الاسم الأول واللقب، وهذا لا يبعد عن الحقيقة كثيرا فهي من عائلة كبيرة، لكن هذه السيدة البرجوازية تخلت عن أوهام الثراء وطموحات بنات العائلات الكبرى، ورضيت بعبير الطين عطرا.

وبسمرة الطمي بساطا للواقع والأحلام، وعاشت في كنف زوج ضحى بحياته من أجل فكرة فخلدته الفكرة ورسمت لشاهندة طريق الكفاح بعد رحيل الزوج الشهيد شاهندة "أم الصوت الحزين..

أم العيون جناين يرمح فيها الهجين ، كما يصفها أحمد فؤاد نجم في قصيدته عنها، أخبرتنا عن صلاح حسين أيقونة ثورة الفلاحين ، وعن كمشيش كلمة سرها، وعن اتحاد الفلاحين حلمها الذي تحول إلى واقع بعد 25 يناير تلك الثورة التي عاشتها شاهندة وشاركت فيها وكأنما لم تنقطع عن الثورة يوما منذ بدأت نضالها إلى جانب زوجها من أجل الفلاحين في ستينيات القرن الماضي ضد الإقطاع الفلاح يعني لها مصر.

والفلاحون - الذين بنوا مصر بمنتجاتهم التي كانت الثورة تأخذها لتبني من ثمنها المصانع والمدارس - صار لهم أخيرا نقابة تمثلهم بعد أن تبنت الفكره هذه السيدة لسنوات طويلة بلا كلل ولا يأس.. رغم أنها دفعت الثمن غاليا دائما.

ما جعل نجم يسائلها في قصيدته:
إيش لون سجن القناطر وإيش لون السجانين، وإيش لون الصحبة معاكي نوار البساتين، كل المحابيس يا بهية وعيونك زنازين، وغيطانك الوسيعة ضاقت على الفلاحين.

كان أحد الأثمان ما دفعته نتيجة حوار أجرته معها مجلة "نصف الدنيا" عام 2005 لتسرد فيها حقائق وذكريات، جعلت العائلة التي كانت وراء قتل زوجها في الماضي ترفع ضدها دعوى، ويصدر فيها الحكم عليها بالحبس لمدة ستة أشهر.

وعندما أصدرت مذكراتها تحت عنوان "أوراق شاهندة مقلد" صدر حكم بتغريمها 10 آلاف جنيه بتهمة السب والقذف بحق عائلة الفقي التي رفعت دعوى ضدها مرة أخرى، مطالبة بمصادرة الكتاب. ولكن شاهندة استمرت في نضالها يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، وشهدت الوقائع الثورية كلها في الانتفاضات الشعبية التي سبقت ثورة يناير.

وعندما قامت الثورة، لم تفعل شاهندة سوى فتح كتاب الأحلام والدخول فيها لتجعل السطور التي كتبتها في الطمي حقيقة واقعة تتحقق كل يوم، إلى أن شهد المؤتمر السنوي الذي عقد في ذكرى الشهيد صلاح حسين في 30 إبريل من العام 2012 إعلان قيام اتحاد الفلاحين، أو نقابة الفلاحين، كما تحب شاهندة أن تقول وهو الحلم الذي عاشت من أجله خمسين عاما.

قد تكون شاهندة عند الجميع أرملة الشهيد اليساري صلاح حسين، ولكنها ابنة أبيها الذي لا تنسى خلاصة ما علمه لها وتحتفظ به في "أوتوجرافها" القديم .. "وصيتي إليكِ هي التقوى، اتقِّ الله في كل صغيرة وكبيرة، لا تفعلي سرا ما تخشينه جهرا، إذا كنتِ في نعمة فحافظي عليها وليكن لليتيم والمحروم منها نصيب، دافعي عن رأيك حتى الموت.

لم تتخلف شاهندة مقلد يوما عن ثورة يناير 2011 وما تلاها من مليونيات، مثلما لم تتخلف عاما عن تنظيم المؤتمر السنوي في ذكرى حبيبها الراحل منذ 1966، وحتى عندما دخلت المعتقل في عصر الرئيس الراحل أنور السادات كان فلاحو قرية كمشيش يقيمون المؤتمر ، وكانت تقيمه في المعتقل السياسي .. وهي لا تقبل استبعاد الفلاحين من هذه الثورة، فلم يكونوا غائبين أبدا. فأبناء الفلاحين كانوا في الميادين وسقط منهم الشهداء، واحتجاجات الفلاحين قبل ٢٥ يناير في كل مكان، سواء في وزارة الزراعة أو استصلاح الأراضي .. وكل تلك الاحتجاجات التي توصف بالفئوية والمجتمعية .. كل هذا مهد الطريق إلى 25 يناير.

قصة حب:

مازالت شاهندة تحتفظ في قسمات وجهها بتلك البراءة التي كست وجهها يوما، وهي طفلة تسأل والدها عن تلك العائلة الإقطاعية التي سمعت أنها تحرق الحقول وتقهر الفلاحين: "هي العيلة دي من إسرائيل يا بابا؟".. فقد سمعت في نفس العام عن إسرائيل التي سافر ابن عمتها صلاح ليحارب ضدها من أجل فلسطين في عام 1948


هذه السيدة السبعينية التي مازالت هي وذكرى زوجها في قلوب أهالي كمشيش إلى اليوم.. بدأت رحلتها في الكفاح صغيرة إذ أورثها والدها – ضابط الشرطة – حب الأرض ومن ارتبط بها، فكان طبيعيا أن تعجب بذلك الفلاح الشاب المناضل، ابن قريتها، حتى قبل أن تراه.. فما سمعته عن نضاله في حرب فلسطين وحرب السويس كان كافيا لإشعال شرارة قصة، تحولت إلى ما يشبه الأسطورة، وإن انتهت بمأساة.

عندما أجبرها أهلها على الارتباط بضابط شاب، امتلكت الشجاعة أن تطلب الطلاق منه بعد عقد القران، لتتزوج من فتى أحلامها المناضل، الذي كتب لها رسالة في ثاني يوم لزواجهما مازالت تحفظ سطورها لليوم عن ظهر قلب، يقول لها فيها:"جاءت حبيبتي حقيقة كالأمل، جاءت ولا أدنى أثر لذلك الجهد الرائع يعلق بثيابها، لقد غسل الحب المنتصر كل شوائب الرجعية وزادها حبا ولم يبق من الماضي غير عزيمة الإنسانية، آثرت منزلي ذا الغرفة الواحدة والأثاث الهرم على وثير العيش..".

كلمات أخرى مازالت شاهندة تتذكرها حتى اليوم، هي كلمات الزعيم الراحل جمال عبد الناصر معلقا على استشهاد زوجها في الثاني من مايو/أيار 1967 في مناسبة عيد العمال ..

بعد يومين فقط من منع شعراوي جمعه احتفال قرية كمشيش بالذكرى الأولى لاستشهاد صلاح حسين، وذلك بعد أن رفضت شاهندة عرض جمعة بأن يتم الاحتفال داخل مقر الاتحاد الاشتراكي قائلة: إن هذا غير مقبول أبدا، لأن رفاق وزملاء صلاح حسين قد تم اعتقالهم داخل ذلك المبنى..

"علينا أن نكتشف عناصر الثورة المضادة في كل مكان، ونقضي عليها، من السنة اللي فاتت، السنة اللي فاتت مات الشهيد صلاح حسين في كمشيش ونبهنا... مات إزاي؟ قتل بعد 14 سنة من الثورة بأيدي الاقطاع في كمشيش، في الوجه البحري هنا، حتى مش في مجال الصعيد، جنبنا، جنب القاهرة، وجنب دايرة أنور السادات، إزاي الكلام دا يحصل؟ معناه إيه؟ معناه إن إحنا كنا نايمين على الثورة المضادة اللي موجودة في البلد. إذا كانوا الإقطاعيين بيطلعوا ويموّتوا عيني عينك جنب دايرة أنور السادات، وفي المنوفية، وواحد فلاح لأنه بينادي بحق الفلاحين، وبينادي بإنسانية الفلاحين، ما عملهمش حاجة الراجل.. الإقطاعيين دول أخدنا أرضهم، واتحطوا تحت الحراسة، ولكن فضلوا ملوك زي ما كانوا وأكتر".

مأساة كمشيش:

وقد اشتهرت قضية كمشيش في العالم كله، فزارها الكاتب الفرنسي جان بول سارتر، والثائر الأميركي اللاتيني الشهير جيفارا الذي تحتفظ شاهندة في بيتها بصورته كما تحتفظ بذكرى صغيرة معه..

عندما تحركت لتقود جموع فلاحي كمشيش في عام 1966 ليقطعوا الطريق على موكب الرئيس الراحل عبد الناصر ومعه ضيفه تشي جيفارا، وكانا متوجهين لزيارة السادات في قريته المجاورة – ميت أبو الكوم – فما كان من شاهندة إلا أن ألقت بنفسها على سيارة عبد الناصر لتستوقفها.. ولتنشد مع الفلاحين "سنين عزلونا عنك يا جمال .. حرب ومسعورة شنوها علينا .. بالدم غسلنا ذل الإقطاع .. بالروح وفدينا ظهرك يا جمال .. توجت كفاحنا حققت آمالنا .. والثورة أهي كملت بزيارته الغالية .. كمشيش الثورة كمشيش الصامدة بتبايع ناصر.. ناصر الأحرار، ناصر الثوار"..

توقف عبد الناصر واستمع لهذه السيدة الصغيرة التي سلمته مطالب القرية والفلاحين برفع الظلم عنهم، ووعدها عبد الناصر برفع الظلم المتمثل في العزل السياسي الجائر على أهالي القرية لصالح أسرة إقطاعية.

ناضلت شاهندة ضد ذلك التحالف غير المقدس بين أجهزة السلطة المحلية والإقطاعية ونفوذ الإقطاع المالي والاقتصادي والسياسي الذي لم تتمكن الثورة من أن تقضي عليه - ربما حتى هذه اللحظة، وإلا لما قامت ثورة في 25 يناير.

وقفت شاهندة مرة أخرى ضد الارتداد الذي تجلى في قوانين الإصلاح الزراعي، وطرد الفلاحين وصدور قانون 96 سنة 1992، وهو ما أظهر أن الإقطاع والرأسمالية وكبار الملاك لايزال لهم نفوذ قوي بشكل يسمح بطرد الفلاحين وقهرهم، بل وبالاغتيالات في الوقت الذي حرم الفلاحون من تنظيم قوي يستطيع حمايتهم. فسطوة الإقطاع على قرية كمشيش المصرية الثائرة ضعفت في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، لكنها عادت وقويت في عهده أيضاً، ووصل الأمر بالإقطاع إلى حد اغتيال المناضل صلاح حسين، الذي تصدى لإذلال الفلاحين وقهرهم من جانب إقطاعيي القرية.

قاتل غير حقيقي: 

حوكم القاتل المنفذ محمود خاطر وحكم عليه بالسجن 25 عاما وتوفي بعد خروجه من السجن بسنوات .. لكن شاهندة تؤكد أن القاتل الأصلي هوالإقطاع والسلطة اللذان تحالفا لقتله .. وما زالت تذكر ذلك اليوم الذي كانت تستمع فيه إلى أغنية أنا "بستناك" لنجاة، و لم يأت صلاح الذي لم يخلف يوما ميعادا، وإنما جاءها الخبر المشؤوم..

كانت تنتظر في بيتهما بالإسكندرية حتى بعد مرور آخر قطار .. وفي الساعة الواحدة والنصف دق الجرس، وجرت إليه بفرحتها، وإذ من بالباب هو ابن عمها الذي جاء ليخبرها أن حبيبها قد قتل.. استُشهد الحبيب والد أبنائها الثلاثة – وكان أكبرهم في السابعة من عمره، بينما الصغرى لم تكمل 40 يوما - لتتحمل وحدها مسؤوليتهم ، ومعها مسؤولية فلاحي كمشيش.

زفت شاهندة زوجها إلى قبره الذي أصرت أن يكون في كمشيش رغم اعتراض "تقارير أمنية" على دفنه هناك .. وأخرست يومها دموعا – لا تستطيع أن تلجمها لليوم – كما أخرست من أطلقوا النحيب والعويل عند القبر ونهرتهم قائلة: "إن صلاح لم يمت، ومن قتلوه فعلوا ذلك ليخاف الفلاحون، ولكنهم لن يخافوا وستستمر الثورة …" وقد كان ..

على رصيف أحد شوارع ميدان التحرير ، جلست شاهندة مقلد وأغمضت عينيها، وفتحت بوابات التذكارات كلها لتحتضن في لحظة الفرح الكبرى رفيق دربها وزوجها ومعلمها صلاح حسين،ولتهمس له وسط صراخ الميدان .. لقد انتصرنا يا صلاح...

المساهمون