لا تختلف قصة محمود هاشم عن غيرها من قصص الفلسطينيين الذين شهدوا مجازر في لبنان. هو، قبل أن يخسر أحباء سقطوا شهداء في مجزرة صبرا وشاتيلا (1982)، ذاق مرارة مجزرة تلّ الزعتر (1976) التي راح ضحيتها عدد كبير من الفلسطينيين أيضاً.
في مخيم شاتيلا في ضاحية بيروت الجنوبية، يروي هاشم لـ "العربي الجديد"، ما خبره خلال مجزرة شاتيلا، التي بدأت في 14 سبتمبر/ أيلول من عام 1982 واستمرت ثلاثة أيام. كان يبلغ، حينها، من العمر 17 عاماً. يقول: "في مثل هذا اليوم، كنت برفقة أصدقائي في بيتنا في مخيم شاتيلا. كنا نسهر مع أبي وأمي ونلعب ورق الشدة، عندما راح باب المنزل يطرق بقوّة. كان أحد أصدقائي في المخيّم ويدعى أبو الغضب. قال لي وهو يرتجف: قوموا بسرعة. اهربوا من المخيم. إنهم يقتلون الناس. حاولت تهدئته وسألته ما الأمر ومن يقتل من؟ فأجابني: لا أعرف، لا أعرف. وذهب مسرعاً". يضيف: "عدت إلى الغرفة وأخبرت الموجودين أن أبو الغضب جنّ، وأنه يركض في الطريق كالمجنون، ويطلب منا أن نهرب من المخيم إذ إنهم يقتلون الناس".
ويكمل سرده: "بعد نحو عشر دقائق، بدأنا نسمع أصوات إطلاق نار. قررنا التحقّق مما يحدث في الخارج. توجهنا صوب صوت الرصاص. كانت شوارع المخيم خالية من الناس، لا أحد في الطرقات إلا أنا وأبو الرائد وأمجد. استمررنا بالاقتراب ووصلنا إلى شارع العويني. هناك، تأكدنا أن ثمّة مجزرة تحصل في هذا الوقت. كان الناس يهربون مذعورين، ويصرخون: مجزرة.. مجزرة. تركت صديقَيّ، فأنا أردت إخراج أهلي من المخيم. وبالفعل رافقتهم عبر طريق حيّ فرحات إلى خارج المخيم، ومن ثم عدت على الرغم من إلحاح أمي بعدم عودتي. لم أجد أصدقائي في المكان حيث تركتهما. رحت أبحث عنهما. عندما وجدتهما، كان أمجد يحمل كلاشينكوف. سألته من أين حصل عليه، فأجاب من مستودع الجبهة العربية. لكنّ كلاشينكوفاً واحداً لا يكفي، ورحنا نفكّر من أين سنأتي بالسلاح؟ رحنا نبحث، في حين ذهب أمجد مع رشاشه لاستطلاع الوضع في شارع الدوخي، على ألا يتأخر. وبعد نحو ربع ساعة، عاد من دون سلاحه. كان متعباً جداً ويلهث. وعند سؤاله عما حلّ به، أجاب: رأيتهم وهم يطلقون النار على الناس. حاولت منعهم وظللت أطلق النار عليهم حتى فرغ المخزن من الرصاص. عندها، رميت الكلاشن على الأرض وهربت". يضيف: "ولأننا لا نستطيع القيام بأي شيء من دون سلاح، قلنا إن الهرب هو الوسيلة الأفضل. مائة مرّة جبان، ولا مرّة الله يرحمه. وبالفعل هربنا من المخيم، وكل واحد ذهب بطريق. أنا وصلت إلى الطريق الجديدة".
ويتابع: "بعد ثلاثة أيام، في اليوم الأخير للمجزرة، كنت واقفاً مع بعض الناس الذين ينتظرون أي خبر من المخيم، لأن الصورة كانت ما زالت غامضة، ولا أحد يعرف ما الذي يحصل هناك. بالقرب مني، كان يقف رجل أشقر يحمل آلة تصوير فوتوغرافية، عرفت لاحقاً أنه صحافي بريطاني. كان شجاعاً وقال بلهجة عربية ثقيلة بعض الشيء: أنا بدي أروح على المخيم. في حدا منكو بيروح معي؟. لم يجبه أحد، لكنني عدت لأقول له: أنا أذهب معك. كان الصحافي يملك دراجة نارية من نوع فيسبا. وتوجهنا إلى المخيم. طريق صبرا كان أشبه بصحراء خالية من كل شيء، حتى من القطط. فقط، كنا نحن نتحرك في الشارع، وبقينا نتقدّم حتى تجاوزنا شارع الحي الغربي لمخيم شاتيلا. وصلنا إلى دكان أبي محمد الدوخي. كانت جثته أول جثة نراها على الأرض، في حين فصل جزء من رجله. رجله كانت مبتورة في الأساس وهو يضع رجلاً صناعية. صدمني المشهد. وراح الصحافي يلتقط الصور وقد أوقف دراجته النارية. وأكملنا جولتنا سيراً على الأقدام. وجدنا مجموعة من الأحصنة على الركام وقد أُجهز عليها. وبينها، رأينا رَجلاً مقطوع الرأس. أدركت لاحقاً أنه عمي، وقد تعرّفت إلى جثّته زوجته في وقت لاحق. كنت أنقّل نظري في المكان بغضب شديد، بينما الصحافي يلتقط الصور. تابعنا طريقنا حتى وجدنا شاحنة بيك آب صغيرة، وتحتها مجموعة من الأشخاص كانوا قد أعدِموا. أعتقد أنهم كانوا تسعة أشخاص، لكنني لا أستطيع الجزم. لم أعد أذكر. وبينما كنت أنظر إلى ما حولي والصحافي يلتقط الصور، سمعنا حركة أقدام. التفت إليّ الصحافي، وسأل: شو هاد؟ أجبته أنه قد يكون صادراً عن أناس يهربون. بقينا للحظات، قبل أن نسمع صوت تلقيم سلاح. حينها، بدأنا بالركض. شعرنا بأن المسافة بيننا وبين دراجته النارية كأنها مسافة فاصلة ما بين الموت والحياة. وفور بلوغنا الدراجة النارية، انطلقنا مسرعين. وفي طريقنا، سمعنا بعض الرشقات النارية. لا أعلم إن كان إطلاق النار يستهدفنا أم لا".
لا ينسى هاشم "الجثث المرميّة على جانبَي الطرقات في حين كان متطوّعو اللجنة الدولية للصليب الأحمر يرشّون الكلس فوق الجثث قبل أن تنقل إلى مقابر جماعية. رأيت أيضاً بأم العين، عائلة أبو ردينة وقد قضى كلّ أفرادها باستثناء إحدى البنات التي اختبأت في الغسالة". يردف: "اليوم، هي مستقرّة في كندا".
اقرأ أيضاً: صبرا وشاتيلا حيّة