شاعر الطبيعة الضارية

27 ابريل 2015

توماس ترانسترومر

+ الخط -

حفلت الآونة الأخيرة بموت كثير. موتُ المغمورين أكثر، دائماً، من موت المعلومين. وهو موتٌ لا تتوقف عنده آلة الإعلام، إلا إذا كان بـ "الجملة"، أيّ بأعداد غفيرة. الموت بـ "المُفَرَّق" هو موت الذين لهم أسماء ترنّ في الأذن العامة، وهذا الذي يحظى بالحبر، وبرقيات وكالات الأنباء. توقفتُ، قبل أيام، عن موتٍ فاق التصوّر، في عرض البحر، عن قوارب الموت التي أين منها قوارب موت أواخر تسعينيات القرن الماضي التي كانت تقلُّ الحالمين بالجنَّة الإسبانية، إلى الشاطئ الآخر.. أو إلى الرفيق الأعلى. وكان معظم أولئك الغرقى من الشباب المغاربة. اليوم، تكاد أن تزحم أجساد الغرقى مياه المتوسط تلك القرابين التي تقذف بها بلادنا وبلدان أفريقيا إلى "بوسيدون" راهنٍ، لا يتقبَّلها إلا طعاماً للأسماك. 
لكني سأتحدث اليوم عن موت فرد. شاعر مرَّ بنا، في العربية، خفيفاً في أواخر عمره قبل أن ينال "نوبل" بلاده، ثم يذهب إلى نوم مديد، قرير على الأغلب. أتحدَّث عن الشاعر السويدي توماس ترانسترومر الذي توفى، أخيراً، عن عمر يناهز الثالثة والثمانين، مقعداً، وغير قادر على النطق، بسبب جلطة تركته يعيش، على ذلك النحو، حتى يشهد "مجده" بعينيه.
كان ينبغي أن يكون هناك من يقدّم إلينا شعر ترانسترومر. وهذا حصل بفضل مثابرة مترجمه العراقي قاسم حمادي. لم تكن ترجمة قصيدة له هنا وقصيدة هناك كافية ليلفت النظر. كان لا بدَّ من كتاب يضم مختارات معقولة من قصائده، لنعرف أيّ شاعر هو، وأيّ شعر يكتب. وربما كان ينبغي أن يكون أدونيس هو من يكتب مقدمة الكتاب، ويضع لمساته على ترجمة القصائد. يكفي ذلك كي تصدر أيّ دار نشر الترجمة. هكذا ضمن شعر توماس ترانسترومر تزكية يصعب تجاهلها لجمهرة قرّاء الشعر في العالم العربي (على قلَّتهم اليوم). ولكنْ، كل هذا ليس كافياً كي يلاقي شعره الاهتمام الذي ناله إثر ترجمته، وتضاعف الاهتمام به بعد نيله جائزة نوبل للآداب عام 2011. كان لا بدَّ أن يكون شعراً جيداً، مختلفاً، نوعاً ما، عن شعر الفرنسية والإنكليزية الذي ترجم كثيراً إلى اللغة العربية، فقد جاءت ترجمة شعر توماس ترانسترومر إلى العربية، بعدما تراجع حضور الشعر في العالم العربي لأسباب عديدة، ومركبَّة، يصعب حصرها في القول إنه "زمن الرواية".
بماذا تميّز شعره؟ أستطيع القول إنه قدَّم تصوراً مختلفاً للطبيعة عما هي عليه في الشعر "الأوروبي المركزي"، فرضته الخاصية المميزة للطبيعة الإسكندنافية. إنه يشبه، في علاقته بالطبيعة، القصيدة العربية القديمة التي كانت متعلقة بالطبيعة وما فيها من عشب وطير وحيوان وأساطير. الطبيعة العربية القديمة الضارية تشبه، كما أتصور، الطبيعة النوردية الضارية. يبدو هذا غريباً، لكنه تشابه، فقط، في الضراوة. صحراء. مقابل ثلج. لسع الثلج والبرد والتجمّد مقابل لسع الحر والهجير. صفيح السماء الرمادية في مقابل عري السماء التام. لا توسطات هنا، وتقريباً لا تدرّجات. ينبغي أن تكون شخصية أولئك البشر شديدة البأس ليتمكنوا من العيش في مناخاتٍ ضارية كهذه. أليس هذا ما تبدو عليه صورة القبائل النوردية (الفايكنغ) الذين غزوا معظم الشواطئ الأوروبية، بل وصلوا إلى كندا؟ ولكن، على الرغم من ضراوة الطبيعة السويدية الباردة، أو المثلجة، فإن هناك رقة في شعر توماس، هناك عاطفة. شعره عن البرد ولكن ليس بارداً. شعره عن الطبيعة لكنه ليس محايداً حيالها، أو مجرد مراقب لها. هناك تعاطف مع كائناتها، مثل أي شاعر جاهلي.
لقد عرف ترانسترومر، وهو حيٌّ، أن هناك اهتماماً عربياً بشعره قبل حصوله على "نوبل". وبهذا المعنى، نحن نعرف شعره قبل أن يعرفه القارئ الإنكليزي أو الفرنسي بحسب علمي. لأن مختاراته الواسعة التي ترجمها حمادي لا تضاهيها ترجمة مماثلة في لندن أو باريس، خصوصاً قبل تتويجه بنوبل.

 

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن