شادي النشوقاتي.. الجسد بوصفه مستعمَرة

10 ديسمبر 2015
(من أعمال المعرض)
+ الخط -

تحت عنوان "مستعمرة - خطوط العرض"، قدّم الفنان المصري شادي النشوقاتي (1971) معرضه الجديد الذي اختُتم مؤخّراً في "جيبسوم غاليري" بوسط القاهرة. تطغى على الأعمال سمة البحث والتخطيطات الأولية لمشروع لا يزال يتشكّل بعد.

لذلك، يشعر زائر المعرض أنه ليس في حيّز مكاني، بقدر ما أنه يتسلّل إلى عقل النشوقاتي نفسه. يرحّب الفنان المصري بهذا المجاز المستخدم، ويعلّل اختياراته بالقول: "الأمر له علاقة بعملي الأكاديمي كأستاذ للفن المعاصر في الجامعة الأميركية في القاهرة، إضافة إلى طبيعة المشروع نفسه وطريقة عرضه ومنطلقه البحثي".

في معرضه، يبحث النشوقاتي في فسيوجغرافية الجسد؛ بمعنى إعادة تعريفه من منظور جغرافي، واكتشاف حدود الهوية الجغرافية للجسد كعلامة مميزة. في ما يخص نقطة البدء، تحرّك الفنان من علامة وراثية (وحمة) على يده اليسرى، وحاول تمثيل حدودها الخطية وشكلها على الجلد، من خلال إيجاد نظائر لها على موقع الخرائط الخاص "غوغل إيرث"، وحدّد خمس عشرة موقعاً تتفاوت في ما بينها في علاقة الشبه بعلامته الوراثية، ثم أجرى بحثاً منفصلاً في تاريخ كل منطقة ومجموع مواردها، ولغتها وفنونها وثقافتها وطبيعتها الطبوغرافية.

يوضح النشوقاتي، في حديثٍ إلى "العربي الجديد"، المثيرات البحثية التي دفعته إلى هذا المسار: "الوحمة علامة على الجلد لا أملك لها أي تفسيرات وراثية سوى علاقتها بالجينات، لكنها كعلامة لا يمكن إزالتها تماماً كلون الجلد نفسه؛ الأمر الذي على أساسه أتى مستعمر خلق لنفسه الحق في استغلال بلدان كاملة بوحي من تصنيفه التراتبي لألوان بشرة ساكنيها".

من هنا، ربما، جاء عنوان المشروع ككل، "مستعمرة"؛ حيث يقارب اهتمامات المستعمر، لكن في سياق استعمالها لغرض فني، باعتبار الوحمة وثيقة خلقت أمكنتها الاستعمارية الافتراضية الخمس عشرة؛ "الأمر يعطيني أحقية تخيُّلية في المطالبة باستعمار هذه الأماكن، كما يفعل المستعمر بخلق مبرّرات وهمية لتقنين استعماره"، يقول الفنان.

(من أعمال المعرض)


مصطلح مستعمَرة ينتمي بالأساس إلى علوم البيولوجيا؛ إذ يشير إلى تجمّعات الخلايا التي تنتشر بالتضاعف. لكن من المعروف أن المصطلح استُعير لخدمة المعنى السياسي القارّ. هكذا، يزاوج النشوقاتي بين المعنى البيولوجي والجيوسياسي؛ يتألّف صلب المعرض ومركزه من كتلة جبلية من الثلج موضوعة فوق منضدة خشبية بلون أبيض لامع؛ إذ تُركت المنحوتة لتتمدّد معتمدة على تقنية المبرّدات الكهربائية في استخدام الفريون.

كان الفنان المصري حدّد مساراً مُكوَّناً من خمسة عشر جبلاً معدنياً كي تنمو عليها الكتلة الثلجية، لكنها نمت بشكل مغاير؛ لذلك، يبدي اتّفاقه مع حقيقة أن المستعمرة قد تخرج أحياناً عما يريده لها المُستعمر.

يضيف: "هنا تأتي أهمية المنضدة الثُمانية الأضلاع والإضاءة المحصورة بحدود الكتلة الثلجية عليها؛ حيث الإشارة إلى معنى التخطيط للحرب فوق خرائط مفرودة". لماذا منضدة بثمانية أضلاع تحديداً؟ يجيب: "وجدت رسماً توضيحياً وُضع نهاية القرن التاسع عشر، يصوّر الشكل الذي يرمز إلى الاستعمار في العالم بأيقونة ثُمانية الأضلاع، وهو ما يخدم فكرتي".

أرقام أخرى اختارها الفنان في معرضه لم تكن اعتباطية، وإنما مرتبطة بمعرفة محدّدة، أو معلومة تعرّف إليها أثناء بحثه. عن الخمسة عشر جبلاً معدنياً التي وضعها لكي تنمو عليها منحوتته الثلجية، يقول: "وجدت خريطة أثناء بحثي ابتكرها المستعمر الأميركي، واضعاً فيها أهم سلاسل جبلية في العالم بالنسبة إليه، وحدّدها بخمس عشرة، كما وضع فيها أنهار العالم التي حدّدها بخمسة عشر نهراً، وربط الجبال والأنهار جميعها في خريطة جغرافية واحدة".

بهذه الطريقة، اختار النشوقاتي تكوين الجبل كفكرة مركزية لمعرضه، يوضّح: "الثلج عنصر دائم التشكّل، ويتفاعل بشكل عضوي مع محيطه تبعاً للمساحة التي يشغلها ودرجة الحرارة المحيطة". يضيف: "لذلك، كان اختيار اللون الأبيض اللامع للمنضدة، بهدف الإيحاء بذلك الجزء الخفي من جبل الثلج".

في السياق نفسه، الخاص بقاموس الاستعارات، يعرض الفنان تخطيطاته الأولية، التي تتجاوز ستين قطعة. يستعير فيها لغة الرسوم البيانية والخرائط الطبوغرافية، ليقدّم من خلالها أفكاره الواعية واللاواعية المتّصلة بمشروعه. اللوحات تبدو كأنها رسوم توضيحية لهضاب وجبال، وتتكثّف فوق بعضها في طبقات متداخلة، وتغزوها بعض الألوان الفاقعة على استحياء، كالفوسفوري والبرتقالي.

يعترف الفنان المصري أن لغاته المتداخلة تلك قد لا ترضي بعضهم، أو تسبّب إرباكاً للمتفرّج، لكنه يقول: "هي رسومات لما يدور في عقلي، إضافة إلى شغفي كفنان باحث يجري وراء فكرته وتفرّعاتها، ويهمّه أن يعرض مراحل تطوّر الفكرة لديه بشكل فني".

لا يبدو أن لمعرض النشوقاتي، نهاية محدّدة سلفاً، فالمشروع الذي ينطوي على جهد بحثي واسع لا تقف تفرّعاته الشجرية عند حد. يوضّح: "المفترض أن هذا المعرض جزء من 15 مشروعاً بحثياً. ومن المفترض، كذلك، أن ألقي محاضرات في الخمسة عشر مكاناً في العالم، التي اخترتها بناءً على علاقة الشبه بينها وبين العلامة الوراثية في يدي.. سأقدّم تفسيراتي لأسباب اختياري لكل منطقة كمستعمَر فني".



اقرأ أيضاً: "السورياليون المصريون": زمن الفن والثورة

المساهمون