سُكارى بضوءِ منفاك

19 اغسطس 2019
(كمال بلاطه بين ستيف سابيلا (يمين) وهاني زعرب)
+ الخط -

ربما ليس لديك الوقت الآن وأنت في جوقة اكتشاف الغياب، خلف هذا الزمن، لترى ماذا فعل غيابك وكم أثّر فينا. ما هذا الذي فعلته بنا يا كمال؟ فأنت رجلٌ منظَّم في مواعيدك أكثر من الساعة نفسها، كيف تذهب هكذا بدون أن ترنو لنا حتى بإيماءة لذلك.

ولكن لا عليك يا صديقي، فأنا واثقٌ بأنك حتى في هذا كنت قد رتّبت ذلك مسبقاً، لأنك أنت من علَّمنا بأن لا خير في أي شيء قبل إتمامه. وأمّا عن استغراب الجميع دون استثناء لرحيلك السريع هذا، فهو نابعٌ من إيمانك الكبير بأن صورة الحياة هي الأقوى دائماً، وأنه لا يمكن للإنسان أن يختفي بلا أثر.

أنت تعرف يا كمال كم شعرت بالرعب حين تركتُ المنزل لأول مرة. لأنني لم أكن أعرف سوى "فلسطين"، هل تعرف كيف ثابرت؟ بمعرفتي فقط أين كان موطني، وأنني دائماً أجد الطريقة الخاصة بي لأعود إليه. هذا ما تعلّمتُه منك أيضاً، ولولا الشجاعة التي أمددتنا بها لكنا ربما قد استسلمنا.

لا أنسى ذلك اليوم من العام 2006 في باريس عند تصوير فيلم "Meet me out of the Seige" حين قلت لي بلهحتك المقدسية العذبة: "ما تزعل.. هون في المنفى حترجع لوطنك أكثر من قبل... "، بالتأكيد كان عليَّ استيعاب تلك الصورة لاحقاً، لأدرك أن هناك سُبلاً عديدةً لفهم ما هو عادل.

تتملكنا أحياناً الرغبة بالاعتراف، وتزداد هذه الرغبة في حالات الغياب، لهذا سأحتفظ بصوتك الأخير في آخر مكالمة بيننا عندما قلت لي: "ابقَ كما أنت واستمر، وافعل في لوحتك ما تُحب وليس ما ينتظره منك الآخرون"، نعم يا كمال، سأرسم ما دام يمكنني أن أفعل ذلك. وهذا كل ما يمكنني أن أفعله. أريد دائماً أن أُصغي إلى قلبي فقط.

كم سأفتقدك وكم سأتوق لسماع صوتك، وخاصة حين كنت تبدأ المكالمة بكلمتك المعتادة: "مرحباً، أنا كمال... "، كم كانت رقيقة تلك الطبقة الأولى لحديثك وكأنك تفرش بها لوناً في غاية الشفافية ليستوعب ما يليه من طبقات… وكانت هذه النغمة كفيلة لأعرف من تلك الدرجة في لون البداية لصوتك مدى القتامة أو النور الذي يحمله حديثك معي.

فعلاً يا كمال، دائماً الذكريات هي أفضل عادةً ممّا كانت وقت حدوثها، وكل سُكرٍ بلا مُسكِر لا يعوّل عليه. لذلك أعتقد بأننا أصبحنا سُكارى بنورِ منفانا ـ بضوءِ منفاك ـ ذلك الممر الذهبي الذي سيحملنا يوماً نحو الفردوس.


* تشكيلي فلسطيني مقيم في باريس

دلالات
المساهمون