سيّد درويش... انتصار الفن للثورة

21 مارس 2020
مؤسّس لمشروع غنائي حداثي في خدمة الشعب (فيسبوك)
+ الخط -
باتت الذاكرة الموسيقية العربيَّة أكثر عرضة للترهّل والنسيان، بسبب فقر الدم الذي تعاني منه الموسيقى العربية المعاصرة، ما يجعلنا دوماً نمارس نوعاً من "النوستالجيا" الفاتنة مع الماضي وأعلامه. أسماء عربية شامخة صنعت مجد الموسيقى العربية الحديثة، قبيل دخول الاستعمار وبعده. تاريخٌ موسيقي غني شاهد على مرحلة لم تندمل جراحها بعد.

السمة البارزة التي طبعت الموسيقى المصرية مثلاً، منذ مطالع القرن العشرين، هي أنها بدت في لحظة ما وكأنها موسيقى خاصة بحياة الشعب المصري وتطلّعاته وهواجسه ومشاغله اليومية البسيطة، بوصفها لسان حاله السياسي والاجتماعي، مُشكِّلة أحد مظاهر تحرّره من ربقة الاستعمار البريطاني الذي فرض قيوده سياسياً واجتماعياً وثقافياً على المجتمع المصري آنذاك. غير أن الدور الذي لعبته الموسيقى في خدمة الوجدان الثوري للناس، لم يظل حبيس الموسيقى المصرية فقط، بقدر ما امتدّ إلى جغرافيات مختلفة وفنون متباينة التأثير في توسلها للتعبير عن آلام نخرت المجتمع خلال القرن العشرين.

يبرز المغني والملحن المصري سيّد درويش (مواليد 1892 في الإسكندرية)، والذي حلّت مناسبة ميلاده الأسبوع الماضي في 17 آذار/ مارس، في طليعة الفنانين المصريين الذين أسسوا لمشروع غنائي حداثي في خدمة الشعب وتطلعاته الوحدوية.




فهذا الفنان الفقير ابن حي كوم الدكة في الإسكندرية الذي حُرم من الدراسة بسبب عدم قدرة عائلته على دفع تكاليفها، اضطر في بداية الأمر للولوج إلى بعض المدارس التقليدية لحفظ الأناشيد وتجويد القرآن وضبط قواعده. ثم اشتغل في أعمال البناء ليعيل أسرته، وهو صبي لم يتجاوز 16 عاماً، قبل أن يهاجر صوب مدينة القاهرة ولياليها الساحرة، كي يبدأ مشواره الفني في الغناء بالمقاهي والسهرات الليلية التي كانت تحبل بها مصر آنذاك.

شكّلت المقاهي المختبر الحقيقي لاكتشاف صوت درويش وذيوعه داخل الأوساط الشعبية. وهذه الظاهرة في الأساس لعبت دوراً كبيراً في بروز وعي الموسيقى الشعبية في صفوف المستضعفين من المجتمع، وهي خاصية فنية مصرية في المقام الأول. كذلك أبانت أنها ذات قيمة ونجاعة كبرى لا للمجال الغنائي فقط، بل حتى على صعيد السياسة التي أثرت بشكل كبير على المغنين الذين ارتادوا تلك المقاهي. وكان المغني العربي في ذلك الوقت يمتلك ثقافة كبيرة، وصاحب مشروع غنائي ومجتمعي، وبالتالي فإن إدراج السياسة داخل أغانيه يُعتبَر مجرد امتداد جمالي لمشروعه الفني الخالص. كما أنَّ صعود سيّد درويش رافق موجة التحرر الوطني المصري ضد الاستعمار البريطاني. لذلك، كان من المستحيل على سيّد درويش العاشق لمقاهي القاهرة والإسكندرية، ألا يصاب بحمى السياسة.



وقام في لحظة ما بتغيير ألحانه نحو هواجس ثورة 1919 التي سيغدو معها سيّد درويش رائداً من رواد الموسيقى المصرية، بحكم التجديد المُستحدث على أغانيه. بل الأكثر من ذلك هو قدرته على النقد الساخر للاستعمار البريطاني وأتباعه. فأصبح درويش في مدة قصيرة من عمر الثورة لسان حال المجتمع المصري، يتغنَّى بأحزانه وأوجاعه، عاملاً على تثوير مُخيّلة المُواطن المصري، ومع أنه لم يحقق الشيء الكثير من النجاح في هذه المرحلة، لكنه استطاع ببعض أغانيه اختراق مسامع وقلوب البسطاء. بل إنه صار، خلال هذه السنة، يتصدر المظاهرات وشعارات الثورة، خاصة بعض الأغاني من قبيل: "قوم يا مصري" و"أهوه ده إللي صار" فضلاً عن أغنيته الأشهر "يا بلح زغلول"، والتي كتبها بعدما تم نفي زعيم حزب "الوفد" المصري سعد زغلول.

المساهمون