ولد سيّار الجميل في الموصل سنة 1952، في عراق آخر غير عراق اليوم. نشأ في حضن مكتبة ضخمة تتوارثها أسرته، مليئة بالكتب والمجلات والذكريات. يقول "شغلتني في البداية القصص، قصص الأطفال والأنبياء. وذات مرة حاولت قراءة كتاب "نهج البلاغة"، إلا أن أبي رحمه الله قال لي بلطف "ابني هذا اتركه إلى مرحلة مقبلة، الآن أنت صغير عليه، لن تفهم منه شيئاً".
أهداه والده، في المقابل، قاموس "المورد" فانشغل بمطالعات موسّعة فيه يقول الجميل لـ "العربي الجديد"، ويضيف "كنت أعود بكل كلمة إلى أصلها في القاموس حتى أعرف الدلالات وهل لها أكثر من معنى. أصبحت أعرف العواصم، أعرف البحار، أميّز بين الصحراء الكبيرة والصغيرة والسواحل والمدن الأساسية وبماذا تختص كل مدينة". كانت الجغرافيا علماً فاتناً في سنوات النشأة. وهو يرى من موقعه اللاحق كمختص في علم التاريخ "أن الجغرافيا هي الأساس، فالزمان والمكان متلائمان".
قبل أن يحطّ رحاله عند دراسة التاريخ كتوجه نهائي في حياته، درس الجميل القانون. بيد أن ظروف ما بعد وفاة والده أجبرته أن يغادر إلى كلية الآداب حيث شُغف بالتاريخ، وتميز في مواد التاريخ الحديث الذي أحب أن يتناوله من جوانب عدة: حضارية وسياسية واجتماعية وفنية مع قراءات التاريخ الطبيعي وتاريخ السلالات.
تلك الحياة الجامعية، التي صادفت عقد السبعينيات من القرن العشرين، نأى فيها الجميل بنفسه عن جدالاتها السياسية إلا في دوائر ضيقة من الأصدقاء. لذلك يصف المرحلة الجامعية بأنها "كانت تجربةً علميةً أكثر منها نضاليةً أو سياسيةً".
انتهت هذه المرحلة بإحساس بالظلم؛ يوضح "أن أكون من الأوائل ولا أمنح بعثةً، في حين تمنح لغيري لأسباب سياسية". كان حزب البعث، وقتها، قد فرض هيمنته على الحياة الجامعية، إذ كان يعتبرها منطلقاً لتكوين نخب الحكم. لم يتوقف الجميل عند هذه العثرة، يقول "خرجت على حسابي الخاص لإتمام دراستي في إنجلترا بعد أن قُبلت في أكسفورد".
"عالم آخر انفتح أمامي: كتب جديدة، قواميس جديدة، دوائر معارف كثيرة، علاقات مع أساتذة وطلبة ومثقفين. أحسست آنذاك بأنني أخرج من قفص. تمنيت أن يتمدد الوقت حتى أستوعب أكثر وأتعلم أكثر".
في هذه المرحلة اللندنية، بدأ يتشكل السؤال الذي سيشغل جزءاً كبيراً من مسيرة صاحب "نسوة ورجال"، وهو "كيف تبلورت نتائج الخمسة أو الستة قرون الأخيرة في القرن العشرين، لنعيش على بقايا هذه القرون الماضية؟". علاوةً على السؤال الذي سيطر على جيله، "كيف يؤسس هؤلاء الشباب لنهضة حقيقية، ليست نهضةً مزيفةً قائمةً على تصوّرات ثابتة أو شعارات وهمية".
لدى استكمال دراساته سيدخل الجميل في "دوّامة" رحلة مطوّلة. فبعد تجربة تدريس في لندن، تنقل بين تونس، وهران، الدار البيضاء ثم ألمانيا. وكان قد اتخذ قراراً بألا يعود إلى العراق، فهو يعلم أنه سيحاسب على رأيه المناهض للحرب العراقية الإيرانية، والذي كان يجاهر به في الخارج.
مع نهاية الحرب، سنة 1988، غامر بالعودة لزيارة الأهل في الوطن، ما أسفر عن سحب جواز سفره منه، ليشهد حرب الخليج الثانية من داخل العراق. كانت رحلته بين المدن العربية والأوروبية قد أجّلت حلمه القديم بنشر مؤلفات. توقفه في محطة بغداد، جعله - وربما أجبره - على أن يفكر في النشر بجدية أكبر، فانطلق في هذه التجربة من بوابة مشروع كبير هو "تكوين العرب الحديث".
لقد بدأ يشتغل على هذا المشروع سنة 1982، وسيصدر أول أجزائه الأربعة سنة 1989 بعنوان "العثمانيون وتكوين العرب الحديث". لتتلاحق بعده الأجزاء الأخرى: "تكوين العرب الحديث 1516-1916"، "بقايا وجذور التكوين العربي الحديث"، "التكوين العربي المعاصر بين1917 إلى 1967".
ساهم النشر في إخراجه من عزلته العراقية. إذ سيتمكن من مغادرة بلاده نهائياً إلى الأردن سنة 1992 ثم إلى الإمارات فكندا حيث يقيم اليوم.
يوجز سيّار الجميل مشروع "تكوين العرب الحديث" قائلاً: "بالنظر إلى التاريخ الحديث، لاحظت بأن تاريخ القرون الأخيرة ما زال فاعلاً، أما التاريخ القديم والوسيط فنكاد نكون منتهين منه، ولا وجود له إلا في الآثار". من هنا، يرى في التاريخ العثماني "وعاء تاريخ العرب الحديث، والذي ولد في رحمه الاستعمار الأوروبي في المنطقة".
هذا الاستعمار "يتحمل مسؤولية تاريخية كبيرة في بعثرة الخريطة العربية، لكن المشاكل ذات الإرث السياسي والسوسيولوجي هي المرتبطة بالفترة العثمانية". حين يطبّق الجميل هذه الفكرة على المنطقة العربية، يجد "تاريخها الحديث ينبني على بقايا، وقد شخّصتُها في كتابي الثالث "بقايا وجذور"، أي بقايا لجذور تعود بالأساس للعصر العثماني".
يضيف "وهذه الأوطان لم تتشكل إلا على هذه البقايا. فسلالة محمد علي أسست مصر والأسرة السنوسية أسّست ليبيا ووحّدتها، والبايات هم آباء تونس الحقيقيون، وكذلك الدايات في الجزائر، وسلاطين مراكش في المغرب، والباشوات في العراق، والشهابيون في لبنان وشيوخ الخليج العربي".
أثناء إصدار أجزاء "تكوين العرب الحديث" نشر الجميل أعمالاً أخرى أهمها: "الدليل التاريخي" بالإنجليزية، كتاب "حصار الموصل"، "العرب والأتراك: الانبعاث والتحديث"، وكتاب "التحولات العربية"، كما نشر "النسر الأحمر" في شكل سيناريو كان سيعتمده المخرج مصطفى العقاد في فيلمه عن صلاح الدين.
في نهايات القرن الفائت، بدأت تبرز في أعمال الجميل روح استشرافية واضحة. لعل أبرز نتائجها توقعاته لما سيحدث من ثورات عربية، باعتماد نظرية "المجايلة التاريخية" التي نشرها في كتاب بعنوان "المجايلة التاريخية: فلسفة التكوين التاريخي" سنة 1999. فبناءً على هذه النظرية قال إن سنة 2009 تمثل نقطة تحوّل، وسوف تتمخض عن تغييرات جذرية في المنطقة، وهو ما ظهر في نهايات 2010.
يشتغل سيّار الجميل منذ 3 سنوات، بالتعاون مع "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" على مشروع "الدواخل والسواحل" الذي يوشك على الانتهاء منه، وهو دراسة مقارنة بين تاريخ البحر والبر، وكيف انتقل الناس على مدى القرنين الأخيرين من الدواخل الصحراوية إلى السواحل.
في المرحلة القادمة، سيحاول أن يكمل "حقيبة الذكريات" وهو عمل يقول عنه "بدأته بـ "نسوة ورجال: ذكريات شاهد الرؤية" وسأتحدث فيه عن مسيرتي من الطفولة إلى الآن". في هذه المسيرة، اجتهد الجميل في وضع "استراتيجية تفكير" لفهم التاريخ العربي، ومن ثم الانطلاق نحو نظرة، يسميها "رؤيوية"، ترقب "التاريخ وحصيلته ورواسبه ومؤثراته بعين فاحصة ودقيقة التمييز".