سينما لبنانية في قرطاج: بدايات تأسيسية دائمة

23 أكتوبر 2017
من "الوادي" لغسان سلهب (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
يصعب تحديد تاريخٍ ثابت لولادة سينما لبنانية جديدة. هذا عائدٌ إلى مرورها، منذ عام 1929 (التاريخ الرسمي، المتّفق عليه، لنشوء تلك السينما)، في بدايات تأسيسية عديدة، وفقاً لحراكٍ يعيشه لبنان في مساره الحافل بتغييرات جمّة. غير أن مهتمّين بتأريخ "البدايات التأسيسية" تلك يتفقون على أن مطلع تسعينيات القرن الـ 20، أي الفترة اللاحقة للنهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، يشهد مرحلة جديدة في صناعة الصورة السينمائية اللبنانية، المرتكزة على لغةٍ ترغب في الاستفادة من اختبارات يقوم بها لبنانيون عديدون في دول أوروبية تحديداً، ومن ثقافة ووعي جمالي ومعرفي، تساهم كلّها في مقاربة تجديدية لأحوال البلد وناسه، والاجتماع وتقلّباته، والحياة ومآزقها.
يلتقي هؤلاء، أيضاً، على موعدٍ يرونه أساسياً، هو العام 1992، عندما أنجز سمير حبشي (1961) فيلمه الروائي الطويل الأول "الإعصار"، بعد دراسة أكاديمية تلقّاها في أوكرانيا. وهو الفيلم الذي دشّن تلك الفترة، والذي افتتح مساراً تصاعدياً في ثنائية الإنتاج والنوعية، والذي أصبح محطة في المسار التاريخي للسينما في لبنان. كما أنه أول فيلمٍ لبناني يتناول فصولاً من الحرب الأهلية، أو تأثيراتٍ لها في أفرادٍ وحيواتهم، يُنجَز في مرحلة "السلم الأهلي الهشّ والناقص".
هذه عوامل إيجابية، تُضاف إلى حساسية الفيلم بحدّ ذاته، في مقاربته تلك الحالة البشرية الفردية المرتبكة والقلقة والمدمَّرة، لفردٍ يعاني كوابيس الخراب والموت والمتاهة. ولهذا، يُمكن اعتباره بمثابة لحظة ـ تاريخية وفنية ودرامية وجمالية وإنسانية وثقافية ـ تظهر بين تراكمٍ نوعيّ لأفلام لبنانية تُنتَج خلال الحرب، وتتناول أحوال الحرب وأحوال الناس فيها، وبين مرحلة جديدة يُفترض بها أن تكون سلماً أهلياً حقيقياً، لكنها تكشف، سريعاً، عن كونها امتداداً للحرب، بأشكالٍ مختلفة.
سينما الحرب ستكون، منذ تلك اللحظة، حاضرة في أسئلة النقد والثقافة والحياة اليومية. أي أنها ستضع كثيرين أمام ذواتهم، وستُعرّي شيئاً من حكاياتهم وذاكراتهم وأحوالهم، ما يجعل هؤلاء في موقعٍ رافض، لأسباب جمّة، أبرزها كامنٌ في خوفٍ من الوقوف أمام مرايا الذات. وسينما الحرب تلك، رغم أنها حاضرة في أعوام الخراب اللبناني بين منتصف سبعينيات القرن الـ 20 ونهاية ثمانينياته، ستُصبح لاحقاً إحدى أبرز سمات صناعة الفيلم اللبناني، إنْ يكن الفيلم روائياً أو وثائقياً، طويلاً أو قصيراً، تجريبياً أو مُستنداً إلى تقنية التحريك. وإذْ تبدو الأشكال السابقة كلّها أساسيةٌ في السينما اللبنانية، إلا أن التحريك يُشكِّل تجديداً فنياً وتقنياً وجمالياً ودرامياً، منذ أعوام عديدة، في محاولة صائبة لابتكار صُوَرٍ أخرى لسرد حكايات ووصف حالات. ولشدّة الفعالية الإبداعية في الاستعانة بهذه التقنية، المعطوفة على جماليات الصورة والموضوع والمعالجة، تمكّن إيلي داغر من الفوز بـ "السعفة الذهبية" لأفضل فيلم قصير، عن "موج 98"، في الدورة الـ 68 (13 ـ 24 مايو/ أيار 2015) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ.
والتحريك يجد مكاناً مهمّاً له في أفلام وثائقية، كمحاولة ـ فنية وثقافية وسردية ـ لاختبار الموقع الجماليّ لتلك التقنية في توثيقٍ سينمائي، يعثر على مفردات تجديدية، هو أيضاً، تُحرّره من وطأة التسجيل واللغة التلفزيونية، دافعةً إياه إلى تخوم سينمائية أعمق وأهمّ وأجمل. فالوثائقي اللبناني الجديد، المتألّق بجودته السينمائية والجمالية والإنسانية والثقافية والتأملية والسجالية، يخوض معركة الذاكرة والصورة والراهن، في محاولة دؤوبة لتفكيك أحوال البلد وناسه. وهو، بهذا، يعتمد على مسألتين اثنتين: أولاً، التعاون مع أحد أقارب المخرج الوثائقي (أب، أم، عم، مثلاً)، أو مع أفرادٍ مختلفي الانتماءات والهواجس، لسرد إحدى الحكايات، الخاصّة المفتوحة على العام، أو لاستعادة ماضٍ يُراد له النسيان والتغييب. ثانياً، الإمعان في نبش المخفيّ والمغيَّب، الذي يُمنع الاقتراب منه، بحجّة عدم المسّ بالسلم الأهلي اللبناني. فالمخفيّ والمغيَّب متعلّقان بالحرب الأهلية تحديداً، كما بمرحلة السلم الهشّ والناقص، لأن أموراً وملفات وأسئلة كثيرة لا تزال معلّقة، بسبب رفض السلطات المتعاقبة معالجتها ومناقشتها وإيجاد حلول أو أجوبة لها، ولأن لبنانيين كثيرين منفضّون عنها، أيضاً.
لذا، يبقى الوثائقيّ أكثر الأنواع السينمائية اللبنانية اشتغالاً على أسئلة كهذه، بلغةٍ تجمع التوثيق والأرشفة والمعلومة بالحكايات الفردية، على ركيزة سينمائية تعتمد لغة الصورة بالتوازن مع قولٍ أو تعبيرٍ أو حركةٍ. وهذا ما يصنعه سينمائيون لبنانيون شباب، أمثال سيمون الهبر ورامي نيحاوي وإليان الراهب وأحمد غصين وزينة صفير وهادي زكّاك وداليا فتح الله ورين متري وآخرين، وإن باختلافٍ في أسلوب الاشتغال، إذْ يهتم بعض هؤلاء بمقاربة التفاصيل والحكايات عبر لقاءات مع أقارب، بينما يذهب آخرون إلى المخفيّ والمغيَّب عبر أفرادٍ يعرفون، لأنهم يحملون في ذواتهم جراح تلك المرحلة وآلامها وأوهامها وهواجسها.



المساهمون