29 سبتمبر 2017
سينما "جمال"
لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية قد ولدت، ولا الفصائل التي دخلت حياتنا، نحن الفلسطينيين في الشتات، لم تكن تلك الشخصيات الفلسطينية السياسية، أو الثقافية، التي صرنا نطلق عليها رموزاً وطنية في الستينيات وما بعدها قد صارت جزءاً من جدل الحياة واختلافات الأمزجة. لم يكن لدينا حكاياتنا الخاصة، وأبطال حكاياتنا الذين نتماهى معهم، ونحلم أن يأتوا إلى مواقع الإحباط والشعور بالغبن في نفوسنا، ويمدوا لنا أيديهم القوية، ينتشلوننا إلى البسيط واليومي الذي يعيشه الناس، ممن لم يختبروا التشرد والوحل في الطرقات، ودلف مياه الأمطار من سقوف زنكية أقرب إلى لعنةٍ عشناها في سنوات منتهى البؤس، الممزوج بيأسٍ، سيطول عمره، إلى أن يصبح من سمات وجوهنا وأرواحنا.
كان يمكن لتاريخ حياتنا، نحن أبناء مخيم عين الحلوة وبناته أن يُقرأ بمرحلة سينما "جمال" وما قبلها وما بعدها، فقد حملت هذه السينما من الأهمية لنا ما أصاب خيالنا وأحلامنا بما يمكن مقارنته بتأثير السينما في وعي البشر، لجهة إيجاد الأنماط والنماذج المؤثرة في الثقافة والتركيب النفسي والاجتماعي في العالم.
أسس سينما "جمال" حنا صادر من قرية درب السيم جنوبي المخيم، وهي قرية مسيحية، تعتبر الأقرب، في بيوتها وعلاقتها، إلى المخيم، إلى حين اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. لا أدري ما إذا كان حنا صادر قام بمشروعه، في منتصف الخمسينيات، لشغفه بالسينما، أم لهدف تجاري فقط، يحمل، في بعض جوانبه، تعاطفاً انسانياً مع هؤلاء اللاجئين الذين اقتحموا فجأة وداعة ضواحي قريته، وليس لديهم وسيلة تسلية غير النوم مع زوجاتهم وإنتاج الأطفال، فأراد تقديم ما يمكن أن يوجِد لهم مجالاً لتوسيع خيالهم، من خلال الأفلام التي كانت تعرضها دار السينما، والتي كانت، في معظمها، تقدس الأبطال الفرديين المظلومين، مثل فيلم "عنتر وعبلة" لسراج منير، و"منجالا بنت الهند"، وهي هندية تقاتل الأشرار لمصلحة الفقراء، وأفلام الغرب الأميركي بالأبيض والأسود من إنتاج نهاية الأربعينيات.
كل ما في الأمر أن حنا صادر وظّف لإدارة السينما الفلسطيني أبو النمر سعد، من مدينة طبرية الذي استعان بطاقم إعلاميين، يقومون بحملات ترويج عروض الأفلام، من خلال حملهم ملصقات الفيلم الجديدة على لوحات خشبية، ويجوبون المخيم، ويقوم أحدهم، وكان، على الأغلب، شاب لقبه الشاكوش، وشاب آخر لقبه الشنو، بالمناداة على اسم الفيلم وأبطاله. كم كانت قلوبنا تقفز من مطارحها، حين يكون الفيلم من بطولة فريد شوقي، الطيب غالباً في أدواره، ومحمود المليجي غريمه الشرير.
لم يكن إعجاب حنا صادر بجمال عبد الناصر فقط ما جعله يسمي السينما باسمه، ولا ما مثله ناصر في تلك الحقبة. ولكن، ربما لاكتشافه العلاقة الحميمة بالضبط التي ربطت الفلسطينيين بعبد الناصر الذي مثل لهم حلم تحرير فلسطين، والقضاء على إسرائيل، ما يعني عودتهم إلى أرضهم. المؤكد أن حنا صادر لم يكن لديه أبنٌ أو بنت تحمل هذا الاسم. والمؤكد أنه ظل على علاقة طيبة مع أهل المخيم إلى أن فجّر إسلاميان فلسطينيان من المخيم عام 1983 دكانه لبيع المشروبات الروحية في قريته، والذي عمل فيه بعد زوال السينما في نهاية الستينيات، ونهايتها التراجيدية أول وآخر دار للسينما في المخيم.
تداول على إدارة السينما بعد وفاة أبو النمر السعد أشخاص من المخيم، منهم سعيد عباس شبيه رشدي أباظة، وعابد دحابرة المدير الأخير قبل أن تستولي حركة فتح على المبنى الذي كان أصلاً ثكنة للجيش الفرنسي في الثلاثينيات، وتحوله إلى مصنع للأسلحة، ما جعل إسرائيل تقصفه بطيرانها الحربي مرات، إلى أن دمرته تماماً في اجتياح عام 1982، ولا يزال الحي الذي شهد أحلامنا وولادات أبطالنا ورموزنا يسمى حيّ السينما.
كان يمكن لتاريخ حياتنا، نحن أبناء مخيم عين الحلوة وبناته أن يُقرأ بمرحلة سينما "جمال" وما قبلها وما بعدها، فقد حملت هذه السينما من الأهمية لنا ما أصاب خيالنا وأحلامنا بما يمكن مقارنته بتأثير السينما في وعي البشر، لجهة إيجاد الأنماط والنماذج المؤثرة في الثقافة والتركيب النفسي والاجتماعي في العالم.
أسس سينما "جمال" حنا صادر من قرية درب السيم جنوبي المخيم، وهي قرية مسيحية، تعتبر الأقرب، في بيوتها وعلاقتها، إلى المخيم، إلى حين اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. لا أدري ما إذا كان حنا صادر قام بمشروعه، في منتصف الخمسينيات، لشغفه بالسينما، أم لهدف تجاري فقط، يحمل، في بعض جوانبه، تعاطفاً انسانياً مع هؤلاء اللاجئين الذين اقتحموا فجأة وداعة ضواحي قريته، وليس لديهم وسيلة تسلية غير النوم مع زوجاتهم وإنتاج الأطفال، فأراد تقديم ما يمكن أن يوجِد لهم مجالاً لتوسيع خيالهم، من خلال الأفلام التي كانت تعرضها دار السينما، والتي كانت، في معظمها، تقدس الأبطال الفرديين المظلومين، مثل فيلم "عنتر وعبلة" لسراج منير، و"منجالا بنت الهند"، وهي هندية تقاتل الأشرار لمصلحة الفقراء، وأفلام الغرب الأميركي بالأبيض والأسود من إنتاج نهاية الأربعينيات.
كل ما في الأمر أن حنا صادر وظّف لإدارة السينما الفلسطيني أبو النمر سعد، من مدينة طبرية الذي استعان بطاقم إعلاميين، يقومون بحملات ترويج عروض الأفلام، من خلال حملهم ملصقات الفيلم الجديدة على لوحات خشبية، ويجوبون المخيم، ويقوم أحدهم، وكان، على الأغلب، شاب لقبه الشاكوش، وشاب آخر لقبه الشنو، بالمناداة على اسم الفيلم وأبطاله. كم كانت قلوبنا تقفز من مطارحها، حين يكون الفيلم من بطولة فريد شوقي، الطيب غالباً في أدواره، ومحمود المليجي غريمه الشرير.
لم يكن إعجاب حنا صادر بجمال عبد الناصر فقط ما جعله يسمي السينما باسمه، ولا ما مثله ناصر في تلك الحقبة. ولكن، ربما لاكتشافه العلاقة الحميمة بالضبط التي ربطت الفلسطينيين بعبد الناصر الذي مثل لهم حلم تحرير فلسطين، والقضاء على إسرائيل، ما يعني عودتهم إلى أرضهم. المؤكد أن حنا صادر لم يكن لديه أبنٌ أو بنت تحمل هذا الاسم. والمؤكد أنه ظل على علاقة طيبة مع أهل المخيم إلى أن فجّر إسلاميان فلسطينيان من المخيم عام 1983 دكانه لبيع المشروبات الروحية في قريته، والذي عمل فيه بعد زوال السينما في نهاية الستينيات، ونهايتها التراجيدية أول وآخر دار للسينما في المخيم.
تداول على إدارة السينما بعد وفاة أبو النمر السعد أشخاص من المخيم، منهم سعيد عباس شبيه رشدي أباظة، وعابد دحابرة المدير الأخير قبل أن تستولي حركة فتح على المبنى الذي كان أصلاً ثكنة للجيش الفرنسي في الثلاثينيات، وتحوله إلى مصنع للأسلحة، ما جعل إسرائيل تقصفه بطيرانها الحربي مرات، إلى أن دمرته تماماً في اجتياح عام 1982، ولا يزال الحي الذي شهد أحلامنا وولادات أبطالنا ورموزنا يسمى حيّ السينما.