سيناريوهات أزمة سدّ النهضة: من الوساطة إلى التحكيم الدولي

10 أكتوبر 2019
وصلت مفاوضات سد النهضة لطريق مسدود (زكرياس أبوبكر/فرانس برس)
+ الخط -
وصلت مفاوضات سدّ النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان، والتي استمرت حوالي ثماني سنوات، إلى طريقٍ مسدود، بعدما شهدت "تعنتاً إثيوبياً" على حدّ قول القاهرة، ما يعيد طرح السؤال حول ماهية الخيارات المتاحة اليوم، تحديداً أمام مصر لمحاولة الإبقاء على هذه المفاوضات قائمة.

ورأت إثيوبيا أمس أن الاقتراح المصري الجديد بشأن سدّ النهضة "عبورٌ للخط الأحمر" الذي رسمته. وأوضح مستشار شؤون الأنهار الحدودية في الوزارة تفيرا بين، أن "مصر اقترحت إطلاق 40 مليار متر مكعب من المياه كل عام، وإطلاق مزيد من المياه عندما يكون سدّ أسوان (جنوب مصر) أقل من 165 متراً فوق مستوى سطح البحر، ودعت طرفاً رابعاً في المناقشات بين الدول الثلاث، لكن إثيوبيا رفضت الاقتراح، لأن بناء السد هو مسألة بقاء وسيادة وطنية".
في موازاة ذلك، جاءت مواقف المسؤولين المصريين، أمس الأربعاء، لتشير إلى حجم الأزمة التي تخشى منها القاهرة. وخلال جلسة في البرلمان خصت لمناقشة قضية سد النهضة، قال رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، إنّ مصر دخلت رسمياً في مرحلة الفقر المائي طبقاً للأرقام الدولية. ولفت إلى أن نصيب المواطن انخفض إلى أقل من 700 متر مكعَّب من المياه سنوياً. 

من جهته، طالب وزير الخارجية المصري سامح شكري، الذي يواجه مطالب برلمانية باستقالته جراء الفشل في إدارة الأزمة، إثيوبيا والسودان بالقبول بطرف رابع للاستمرار في المفاوضات، فيما اعتبر رئيس البرلمان المصري علي عبد العال أن "الموقف في غاية الحساسية وكل مؤسسات الدولة مجندة للحفاظ على حقوقنا التاريخية في مياه النيل".

وكانت الخرطوم قد استقبلت الأسبوع الماضي اجتماعاً جديداً لوزراء الري واللجان العلمية لكل من مصر وإثيوبيا لدراسة المقترحات المقدمة من القاهرة والخرطوم بشأن سد النهضة، إلا أن أديس أبابا رفضتها. وتعليقاً على ذلك، كتب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يوم السبت الماضي تدوينة عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" قال فيها: "تابعت عن كثب نتائج الاجتماع الثلاثي لوزراء الري في مصر والسودان وإثيوبيا لمناقشة ملف سدّ النهضة الإثيوبي، والذي لم ينتج عنه أي تطور إيجابي". وأكد أن "الدولة المصرية بكل مؤسساتها ملتزمة بحماية الحقوق المائية المصرية في مياه النيل، ومستمرة في اتخاذ ما يلزم من إجراءات على الصعيد السياسي، وفي إطار محددات القانون الدولي لحماية هذه الحقوق، وسيظل النيل الخالد يجري بقوة رابطاً الجنوب بالشمال برباط التاريخ والجغرافيا".

بدوره، قال المتحدث الرسمي باسم وزارة الموارد المائية والري المصرية محمد السباعي، إن المفاوضات "وصلت إلى طريق مسدود نتيجةً لتشدد الجانب الإثيوبي، ورفضه كافة الأطروحات التي تراعي مصالح مصر المائية وتتجنب إحداث ضرر جسيم لها". وعلى ضوء ذلك، أوضح المتحدث أن بلاده "طالبت بتنفيذ المادة العاشرة من اتفاق إعلان المبادئ بمشاركة طرف دولي في مفاوضات سدّ النهضة للتوسط بين الدول الثلاث، مصر وإثيوبيا والسودان، وتقريب وجهات النظر والمساعدة على التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن يحفظ حقوق الدول الثلاث من دون الافتئات على مصالح أي منها".
وتنصّ المادة العاشرة من الاتفاق على أن "تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتهم الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقاً لمبدأ حسن النوايا، وإذا لم تنجح الأطراف في حل الخلاف من خلال المشاورات أو المفاوضات، فيمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق، الوساطة أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/رئيس الحكومة".


وجاء الرفض الإثيوبي لمقترح مشاركة طرفٍ ثالث، واضحاً وحاسماً، فهل يعني ذلك أن مسار المفاوضات أغلق، وللأبد؟

في هذا الإطار، رأى الخبير في الشؤون الأفريقية الدكتور عباس شراقي أن تعثُّر المفاوضات لا يعني إغلاق باب التفاوض، وهو ما لم يعلن في البيان، ما يعني عودة مصر إلى التفاوض حال التزمت إثيوبيا بالبند العاشر المعلن في البيان. وأضاف شراقي، في تصريحات خاصة، أن القلق ليس في تعثُّر المفاوضات، فهذا كان متوقعاً، بل ما يقلق المصريين رفض إثيوبيا وجود طرف محايد، موضحاً أن الرؤية لدى القاهرة أصبحت أكثر وضوحاً، والقادم حلٌّ سياسي لا فني.
وأشار الخبير المائي في جامعة القاهرة إلى أن مصر شرعت في تدويل القضية بدايةً من حديث السيسي خلال كلمته بالأمم المتحدة في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، مشدداً على أن نهر النيل نهر دولي، وبالتالي يحق لمصر أن تطلع على الدراسات الخاصة بإقامة أي منشأ مائي عليه وفق ما تنص الاتفاقية العامة للأنهار بالأمم المتحدة، وذلك لمعرفة الأضرار التي تتعرض لها دول المصب مثل مصر والسودان، نتيجة قيام دول المنابع، مثل إثيوبيا، بإنشاء مشروعات مائية على النيل. 

وتساءل شراقي: "أين هيبة الدولة المصرية؟ فإثيوبيا ترسخ لأحد نماذج الفوضى في أفريقيا من خلال قيامها ببناء سدّ النهضة دون الاستجابة للمطالب المصرية التي تؤكد ضرورة عدم الضرر والتعاون في ملئه وتشغيله وفق الاتفاقية الموقعة بين رؤساء مصر والسودان وإثيوبيا، المعروفة بوثيقة سدّ النهضة، والتي تشدد على التعاون بين الدول الثلاث في هذا الإطار".

من جهته، قال مستشار وزير الري السابق، ضياء القوصي، إن "مرحلة فشل التفاوض تعني بدء مراحل جديدة، بداية من اللجوء إلى وسيط، حتى الوصول إلى التحكيم الدولي"، لافتاً في تصريحات خاصة إلى أن مصر "لا تمتلك كثيراً من الحلول إلا من خلال التفاوض وتدويل القضية، والاعتماد على الدبلوماسية، فالحديث عن أي حل عسكري ليس وارداً في سياستها". وفي ما خص الوساطة، لفت إلى أنه ليس شرطاً أن يكون الوسيط دولة، بل من الممكن أن تكون هناك أدوار في هذا الملف الشائك لمنظمة دولية أو البنك الدولي، أو ربما للاتحاد الأفريقي. وأشار إلى أن القاهرة وأصدقاءها في المنطقة العربية والأفريقية سوف يمارسون ضغوطًا كبرى، لأن مياه النيل والحقوق المصرية التاريخية لا يمكن المساس بها.

وحول الأداء المصري، أوضح خبير السدود لدى الأمم المتحدة سابقاً، أحمد الشناوي، أن القاهرة التزمت معايير التعاون الثنائي كافة، وأثبتت حُسن نيتها من خلال التفاوض خلال السنوات الأربع الماضية، ما يفيدها عند اتخاذ قرار التدويل وحرمان إثيوبيا من التمويل الدولي أو توقيع عقود تشغيل أو توريد من الدول الأوروبية حال قررت مصر هذه الخطوة.

وحول الانتهاكات القانونية الإثيوبية، شرح الخبير في القانون الدولي للمياه  مساعد عبد العاطي أن ذلك بدأ منذ أن أعلنت اديس أبابا رسمياً في إبريل/نيسان 2011، عن بنائها لسدّ النهضة بمواصفات فنية مغايرة تماماً عن تلك التي كانت تتفاوض بشأنها مع مصر والسودان قبل يناير/كانون الثاني من ذلك العام، أهمها أن سعة السد التخزينية هي 14 مليار متر مكعب من المياه، بينما قامت إثيوبيا وفي تصرف مفاجئ برفع تلك السعة إلى 74 مليار متر مكعب". ولفت إلى أن إثيوبيا "فعلت ذلك دون أن تخطر مصر بحقيقة الدراسات الفنية المتعلقة بالسدّ، مخالفةً بذلك مقتضيات مبدأ الإخطار المسبق عند إقامة المشروعات المائية على الأنهار الدولية، ومستغلة حالة الاضطراب داخل مصر نتيجة لتبعات ثورة 25 يناير، ما يشكل في حقيقته انتهاكاً جسيماً لمبادئ حسن النية في تنفيذ الالتزامات الدولية، وأيضاً مبدأ عدم الإضرار، فضلاً عن انتهاك إثيوبيا منذ البداية، لمقتضيات مبدأ الإخطار المسبق".

وعلى الرغم من متانة وقوة الموقف القانوني المصري في مياه النيل، ينادي عبد العاطي بضرورة احتجاج مصر قانونياً على الانتهاكات الجسيمة الإثيوبية للقانون الدولي، على اعتبار أن هذا القانون يكفل الاحتجاج كحقّ مشروع للدول للإعراب عن اعتراضها رسمياً على أي تصرف أو واقعة مادية صادرة عن دولة ما في مواجهة دولة أخرى تعتقد أن من شأن هذا التصرف أو الواقعة التهديد أو الإضرار بحقوقها ومصالحها. وذكّر أن إثيوبيا استخدمت ورقة الاحتجاج ضد مصر دولياً بشأن حالة السدّ العالي، وأيضاً اتفاقية 1959 مع السودان، معيداً التأكيد على أن الاحتجاج يفيد مصر في حالة تدويل الأزمة، وذلك على غرار محضر إثبات الحالة في القانون الوطني.
وبرأي عبد العاطي، فإن مصر تماشت مع الجانب الإثيوبي في ما سمي بالمفاوضات، لكنها في حقيقتها لا ينطبق عليها التوصيف القانوني للمفاوضات الدولية وفقاً لنص المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة، والذي أوجب توافر شرائط قانونية محددة للاعتداد بالمفاوضات كوسيلة دبلوماسية سياسية مهمة في تسوية وإنهاء المنازعات والخلافات الدولية. وأوضح أن أهم هذه الشروط التي يجب توافرها الجدية، وهي أن تكون محددة للنقاط محل التفاوض، وناجزة، وأيضاً ضرورة توافر حسن النية، ومباشرة الأطراف للتفاوض في ضوء احترامها لثوابت ومبادئ القانون الدولي الحاكمة لموضوع النزاع محل التفاوض.

وأضاف الخبير بالقانون الدولي أنه "بإنزال تلك الشروط على ما يعرف بالمفاوضات الخاصة بسدّ النهضة، نجد عدم توافر أو انطباق معظمها، بسبب سوء نية وتعسُّف الدولة الإثيوبية وعدم مراعاتها وضعية مصر الواقعية والقانونية كدولة المصبّ الوحيدة والأولى بالرعاية القانونية، بموجب قواعد القانون الدولي للأنهار الدولية". وأكد أن "معظم معايير تقاسم المياه المشتركة المعترف بها دوليًّا التي نصّت عليها الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة لقانون الاستخدامات غير الملاحية للأنهار الدولية لعام 1997، تنطبق تماماً على الحالة المصرية، كما أن الإنصاف يوجب الإشارة هنا إلى أن هناك أسباباً أسهمت في تعامل مصر مع التعسف الإثيوبي هذا، وأهمها التحديات وحالة الانفلات الأمني بعد ثورة يناير"، معتبراً أن محاولة إسقاط الدولة كانت من العوامل الضاغطة على المفاوض المصري، فيما أساء الجانب الإثيوبي استغلال تبعات الثورة". على الرغم من ذلك، رأى عبد العاطي أنه يمكن لمصر الاستفادة من التصرف الإثيوبي، باعتباره يصب في خانة سوء النية والإضرار، ودليل ذلك أن محكمة العدل الدولية قد أصدرت حكماً في إحدى المنازعات الدولية ذكرت في متنه أن الدولة التي تتفاوض مع دولة أخرى وتستغل إحداها الآثار المترتبة على تعرض الدولة الأخرى لكوارث طبيعية أو ثورات داخلية، وتضغط بها في التفاوض مستغلة هذه الأوضاع، فإن ذلك يمثل مخالفة صريحة للقانون الدولي وسوء نية من الدولة التي تستغل هذه الظروف".

وتابع الخبير بالقانون بالدولي للمياه أنه "على الرغم من كل ذلك، تبقى مصر في موقف قانوني متين، بل يمكن لها تعظيم الاستفادة القانونية من السلوك الإثيوبي المتعسف منذ 2011 حتى اليوم، من خلال كشف حقيقته، وكيف أنها مدّت يد التعاون والتشاور مع إثيوبيا رغم انتهاك الأخيرة لقواعد القانون الدولي، وبما ينفي عن القاهرة ما تروج له أديس أبابا من أنها تقف ضد خطط التنمية، وهو ما اتضح في خطاب السيسي على منصة البرلمان الإثيوبي، والذي يعد أكبر دليل على احترام مصر لحسن الجوار وحق إثيوبيا في التنمية".

وفي ما يتعلق بالحجج القانونية التي تمتلكها، لفت عبد العاطي إلى أن لمصر العديد منها، أهمها معاهدة 1902 وهي معاهدة حدودية وقع عليها ملك ملوك إثيوبيا منليك الثاني مع بريطانيا، متعهداً رسمياً بعدم إقامة أي مشروعات على أنهار السوباط وعطبرة والنيل الأزرق من شأنها عرقلة وصول المياه إلى مصر والسودان، وأيضاً تعهد إثيوبيا بإخطار السودان عند عزمها إقامة أي مشروعات والتفاوض مع مصر والسودان قبل البدء في تنفيذها، فضلاً عن معاهدات الحدود والتي تتميز بقدسية ومرتبة قانونية سامية عن سائر الاتفاقيات الدولية، وهو ما أكدته اتفاقية فيينا للتوارث الدولي لعام 1978 والتي وقعت وصدقت عليها إثيوبيا.

وأخيراً، أشار عبد العاطي إلى أنه "لا يزال أمام مصر الوقت لردع التعسف الإثيوبي، وأن تماشيها مع إثيوبيا منذ 2011 لا يعد نقطة ضعف، بل بالإمكان جعله نقطة قوة لنا، مع ضرورة وثوق الجميع بقوة وصلابة الدولة المصرية في الدفاع عن حقوقها المائية، في ضوء قواعد القانون الدولي والشرعية الدولية". واعتبر أن إقامة سدّ بمثل هذه المواصفات الفنية التعسفية، دون أن يلقى احتجاجاً من القاهرة والاعتراض عليه قانونياً، سيشكل سابقة واقعية وقانونية خطيرة تهدد الحقوق المكتسبة لمصر في مياه النيل، فضلاً عن أنها لن تستطيع منع إثيوبيا أو أيّ من دول الهضبة الاستوائية مستقبلاً، إذا ما قامت هذه الأخيرة ببناء سدود بمثل هذه المواصفات.