يوم 28 كانون الأوّل/ ديسمبر 1952 ورد إلى لبنان سفيراً لدولته، وبقي فيه حتّى 31 حزيران/ يونيو 1956. كان سفيراً من نوع آخر. يُعرَف باسم يورغوس سيفيريس واسمه الحقيقيّ يورغوس سيفيرياذيس. انتدبته دولته اليونان سفيراً لها في لبنان وسورية والعراق والأردنّ في فترة صعبة حصلت فيها تقلّبات كثيرة في الشرق الأدنى والعالم.
اختير من الأكاديميّة السويديّة سفيراً لشعر بلاده وحضارتها عام 1963، حينما نال جائزة نوبل للآداب، فكان أوّل يوناني يحصل عليها رغم استغناء الشعر اليوناني الممتدّ من هوميروس إلى يومنا عن مثل هذه الجوائز.
وُلِدَ سيفيريس في مدينة إزمير في 29 شباط/ فبراير عام 1900، ثمّ تنقّل بين أثينا وباريس ولندن لمتابعة دراساته، قبل أن ينخرط في السلك الدبلوماسيّ. أعوام الدراسة التي قضاها بين هذه العواصم ساعدته في أن يجمع العراقة الأدبيّة اليونانيّة، مع المعاصرة الأوروبيّة. فقد تعرّف إلى إليوت وتصادقا وترجمه إلى اليونانيّة وتأثّر به.
وكان لا يزال في باريس حين صدر البيان السوريالي الأوّل عام 1924. خلفيّته الشعريّة خصوصاً والثقافيّة عموماً التي أثّرت في قصيدته، جعلت النقّاد يصفون شعره بالشعر العقليّ، لأنّه شعر يُحاكي العقل. لكن كيف يمكن لشاعر من سلالة هوميروس وهيسيوذوس والتراجيديّين والكوميديّين والشعر الطَقسيّ (الليتورجيّ) الأرثوذكسيّ وما تَبِعَ، أن ينسلخ عن هذا الإرث ويكتب شعراً ليس فيه ثقل تجارب النفس الشاعرة منذ ما يقارب الثلاثة آلاف عام؟
خلال إقامته في بيروت أثناء انتدابه سفيراً لليونان في الدول العربيّة التي ذكرنا أعلاه، تابع سيفيريس تدوين يوميّاته التي بدأها منذ عام 1925. فسجّل بقدر ما سنحت له ظروف مهمّته، وما ينجم عنها من بلبلة للروح والجسد خواطره بشكل عفويّ، ومُقتَضَب، وصريح.
هذه اليوميّات منذ بدايتها وحتّى تاريخ انقطاع صاحبها عن متابعتها عام 1961، نُشِرَت في سبعة أجزاء بدءاً من عام 1973 - بعد عامَين على وفاة كاتبها- وحتّى عام 1986. لم يتمكّن سيفيريس من مراجعتها وتصحيحها كما يشاء. فرغم أنّه راجع اليوميّات التي صدرت في ما بعد في الأجزاء الخمسة الأولى، إلا أنّه يعتبر أنّه لم يكمل مراجعةً سوى الجزء الرابع والخامس فقط.
أمّا اليوميّات التي كتبها في لبنان على مجموعتَي أوراق حملتا عنوان "بيروت 1" و"بيروت 2"، فصدرت في الجزء السادس عام 1986.
ورغم أنّ يوميّات "بيروت 1" و"بيروت 2" مكتوبة في فترة انتدابه إلى لبنان ومحيطه، إلا أنّها مليئة بكتابات عن قبرص وعن رحلاته في إطار المهمّات الدبلوماسيّة إلى هناك، بسبب تأزّم الوضع مع تركيا، ومليئة برحلاته إلى القدس حيث كان يزور البطريركيّة، وإلى بغداد وعمّان ودمشق؛ وهذه الكتابات معاً تفوق بكثير الكتابات عن لبنان أو التي خطّها في لبنان. إنّ ما يتعلّق بلبنان أو ما كُتِبَ في لبنان ليس كثيراً، حتّى قياساً إلى ما كَتَبه عن أمور أو أشخاص التقاهم في لبنان أو كانوا قد زاروا لبنان كرينان الفرنسيّ.
إضافة إلى تدوين اليوميّات في بيروت، فقد واصل كتابة قصائده، فنظم قصيدة بعنوان "ضهور الشوير"، وأخرى بعنوان "بحمدون"، لا يذكرهما في يوميّاته المنشورة -للتذكير، هناك ما لم يُنشَر بعد-، إضافة إلى قصائد "إيليني"، و"أكروبوليس"، و"شيطان الزنا"، و"إنغومي" [اسم مدينة قديمة في قبرص]، وكلّها غير منشورة في اليوميّات طبعاً، باستثناء بعض الأبيات، منها ما كان سيدخل ضمن قصيدة "إنغومي".
هذه الأبيات كانت أوّل ما بدأ يكتبه تحت هذا العنوان، ولكن لم يُدخِلها في القصيدة النهائيّة. في اليوميّات أيضاً بيتان تحت عنوان "آيا نابا" كتبهما في قبرص، وقد أدخلهما معدَّلَين في قصيدة حافظت على العنوان نفسه. موازنة القصائد باليوميّات تظهر للقارئ انعكاس الأحداث في الأخيرة في أبيات قصائده.
يوميّاته المنشورة في هذه الصفحة، بترجمة كاتب هذه السطور، تخصّ لبنان أو بعض ما كتبه منه، وإن لا علاقة له به مباشرة، ولكن يجب أن نشير إلى بعض الأمور لوضع المقتطفات في إطار يساعد على توضيحها. في اليوميّات المتعلّقة بلبنان، وفي معرض ذكر مدنٍ لبنانيّة نلاحظ أنّ سيفيريس يستعمل الاسم اليونانيّ إذا كان معروفاً، فيذكر "جبيل" باسم "بيبلوس" ويكتب الاسم في سوى ذلك بالحرف اللاتينيّ كما بالنسبة لـ"جون" أو "عمشيت" أو "غزير". ليس من تأويل بالنسبة لي لهذا الأمر سوى أنّه يستعمل الأسماء التي عرِفَت بها المدن عند اليونانيّين منذ القديم ولا تزال مُعتمَدة إلى اليوم.
غالباً ما لا يحدّد زمن التدوين بالتفصيل، بل يكتفي بذكر النهار بلا الساعة، فيقول مثلاً "الجمعة، 6 آذار". أمّا المكان فيُهمِل ذكره حينما يكون واضحاً أنّه في بيروت، في خلاف ذلك يذكر المنطقة التي يكتب منها أو عنها. علامات الوقف غير منتظمة، أو غير مكتملة بالمعنى التقنيّ، إذا جاز التعبير. لكنّها -حيثما توضَع- كفافيّة، يعني أنّه يضمّنها معاني خاصّة بكل جملة تُفهَم من السياق، فتختزل البوح ويتكثَّف الشعر.
في هذه اليوميّات يمكن قراءة ما كَتَب ويمكن قراءة ما لم يَكتُب، أو ما كان يمكن أن يكتبه وقرّر أن لا يكتبه. ليس في هذا انتهاك لقدسيّة بل هو قراءة في البياض الذي لم يملأه الحبر. ففي ثلاث سنوات لم يذكر سيفيريس أيّ مناسبة رسميّة شارك فيها في لبنان إلا مأدبة وداع أقامها على شرفه وزير الخارجيّة وقتها في السان جورج. قال فيها: "مأدبة وداع من وزير الخارجيّة "سان جورج" [الفندق]" ولا كلمة زائدة.
وفي عرس الملك حسين في 18 نيسان/ أبريل 1955 قال: "عمّان: عرس الملك. بعدها [إلى] القدس". تجدر الإشارة إلى سرده مقتطفات من أحاديث مع دبلوماسيّين في ما يخصّ قبرص في حين أنّه لا يأتي حتّى على ذكر أيّ من أحداث لبنان أو سياسيّيه ولو في تعليق على أحدهم، كما في تعليقه على اللقاء مع السفير السعوديّ في بيروت في إحدى المرّات.
بعد أشهر قليلة على استلام مهامّه في لبنان في 14 نيسان/ أبريل 1953 كتب: "إنّه لَأمر فظيع بأيّ وضوح يقدر اليونانيّ أحياناً أن يرى المسافة التي تفصله عن الشرق والغرب كليهما". وهو قول قد يبدو للوهلة الأولى قريباً من تحديد طه حسين للغرب والشرق وبلاد البحر المتوسّط بينهما في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، لكنّ الشبه ليس إلا في قالب الكلمات لا في مضامينها، فشرق سيفيريس غير شرق طه حسين.
ومهامّه يبدو أنّها كانت تتعبه لكنّها شرّ لا بدّ منه لتأمين متطلبات الحياة. فيسجل في 5 أيلول/سبتمبر 1953: "طاحونة الحياة العامّة لن تتوقّف- ولا التعب، ولا القرف الذي يسقي أجرَنا. هناك حسنة في هذا العذاب: لم يهضمني. لست كالأطعمة التي قد اعتادها. كرجل قلم أنتمي إلى عالم يستبعده؛ كرجل بلا وِرثة أيضاً؛ كذلك كرجل تملي عليه الشهامةُ تصرّفاتِه وله ضمير للخدمة". بعد شهرَين، في 5 تشرين الثاني/نوفمبر، يستشهد وهو في القدس بقول الشاعر الصيني بو تشوي (772- 846 م) "بدأت أعتقد أنّ الناس في مراكز الحكم لا يرتاحون إلا حين يمرضون" في إشارة إلى تعبه في مهمّاته.
لِخواطر سيفيريس أهمّيّة خاصّة بسبب مكانة كاتبها. إنّها تدحض النظرة التي يريد اللبنانيّون أن يراهم عليها الآخرون، وتقلّل من الشوفينيّة اللبنانيّة التي لا يبدو أنّ سيفيريس يعيرها أيّ اهتمام، لا بل يسخر من حال لبنان في زمن يمجّده مواطنوه مسقطين عليه تخيُّلَهم أنّه كان باريس أو سويسرا أو ما يحسبونه أبّهة وبهاء.
* كاتب ومترجم لبناني مقيم في أثينا