سير ذاتية متخيّلة
هل نحن في خضم موجة من الكتابة ضمن نوع الـ Autofiction (السيرة الذاتية المتخيلة) في الأدب الإسرائيلي المعاصر؟ وهل ثمّة ما قد يبرّر هذا السؤال هنا والآن؟ وإلى أي حدّ تتقاطع هذه الموجة مع موجةٍ سابقة من كتابة روايات قيامية (ديستوبية)، والتي سبق لكاتب هذه السطور أن أشار إلى شبه طغيانها على مجال كتابة الرواية الإسرائيلية بين الأعوام 2005 و2015، مشيرًا إلى أن أسّ مبررها من كتابها، وهو ما جرى تأكيده في سياق عدة دراسات لباحثين ونقاد إسرائيليين، أن هناك أمرًا جللًا ما يحدث في الواقع الإسرائيلي الآني، وليس فقط في الذاكرة المتصلة بالماضي، يُثير قدرًا كبيرًا من الخوف والرعب، ولكنه بشكل رئيس يؤجّج رؤىً مروّعة حيال المستقبل، سواء المنظور منه أو البعيد.
ربما تحتاج الإجابة عن هذه الأسئلة إلى الانتظار قليلًا لدرس تلك الموجة في ما هو أوسع من نطاق هذا التعليق الموجز، وكذلك نظرًا إلى أن هذه الكتابة جديدة نسبيًا، لا على مستوى الكتابة الأدبية الإسرائيلية فحسب، إنما أيضًا على مستوى العالم. وعلى الرغم من ذلك، يشير الكاتب هنا، من متابعته الخاصة خلال الفترة الأخيرة، إلى صدور أربعة كتب أدبية على الأقل ضمن هذا النوع في إسرائيل خلال عامي 2019 و2020 بأقلام أسماء تعتبر هذه تجربتهم الأولى في كتابة الأدب.
تتناول الكتب الأربعة موضوعات حميمية خاصة، هي الثكل الناجم عن حروب إسرائيل في غزة، وتجربة السجن على خلفية جنائية، ومترتبات صراعات متنوعة ناتجة عن سياسات الهوية، سيما في الجبهتين، الإثنية والجندرية. ويجمع هذه الكتب قاسم مشترك واحد، شعور أصحابها بالاغتراب الكبير تحت وطأة الواقع الذي تحاول أن ترسم ملامحه وتلمّ بخصائصه، وهو واقع إسرائيل في سنوات العقد الثاني من الألفية الجديدة.
نتوقف بمدى ما يسع المجال، عند أحد هذه الكتب، وهو بعنوان "بيت المسارات". تعيد فيه الكاتبة زوهر ألمكايس سبب هذا الاغتراب إلى الانتماء الطائفي، حيث تشرح كيف ظنت أنها أثبتت نفسها في المسار الأكاديمي الذي يُفترض أن تكون قيمة المنخرط فيه مستندةً، على نحو رئيس، إلى منجزه الفكري، بمنأى عن أصله وفصله. يظل هذان الأمران الأخيران المعيار الأبرز الذي يعيد إنتاج نفسه. وتبعًا لذلك، تبقى هي، في المحصلة الأخيرة، إنسانةً شرقية متحدّرة من عائلة هاجرت من المغرب.
بكلمات أخرى، ترى الكاتبة أن إسرائيل ما تزال مجتمع مهاجرين مشروخا، يلهث أكثر من أي شيء آخر وراء تأمين حاجاته الاستهلاكية المادية، ويعيش في توتر دائم. والتوتر، برأيها، بمثابة عدو للأدب والإبداع، فضلًا عن أن هذا المجتمع غير متفرّغ على الإطلاق للحظة توحّد مع الذات، تفضي به إلى التحليق في فضاء عالم روحاني علوي، والتي اعتبرها مارسيل بروست من أهم شروط إبداع الأدب الرفيع. وكل ما عدا ذلك يشكل تفصيلات قد لا تنطوي على أي دلالة خاصة.
في الكتاب نفسه، في وسع القارئ أن يطلّ على ما يحدث داخل أروقة الجامعات الإسرائيلية، وخصوصًا تشديدها، في الآونة الأخيرة، على العلوم والتكنولوجيا الرفيعة، وإهمالها موضوعات الأدب والفلسفة وعلم النفس، إلى جانب الإطلالة على تأكيدها أنه من دون الحرص على تربيةٍ إنسانيةٍ قويمة، ربما لن تكون هناك علوم متفوقة. وفي ما يختص بالنظرة إلى اليهود الذين أتوا من الدول العربية، تسجل الكاتبة، ولو تلميحا، إلى أن العقلية الإسرائيلية لا تنفك تنميطيةً حيال كل من هو ذو أصول ليست أشكنازية غربية. ولا بُدّ من أن يُضاف أن هذه العقلية تتغذّى، في الوقت عينه، من هيمنة عقلية يهودية تنميطية على الغالبية الساحقة من الإسرائيليين إزاء من ليسوا يهودًا، كما تشهد على ذلك مثلًا عبارة "غوييم" (الأغيار) التي تنطوي على تحقير كل من هو غير يهودي.