سيرتها الذاتية

14 ديسمبر 2015
عندما تحل الكتابة محل كاتبها (GETTY)
+ الخط -
ألقت على الورقتين الموجودتين أمامها على الطاولة النظرة الأخيرة. كانت الأصول تقتضي ألا تزيد الكتابة عن ورقة واحدة، ولكنها لم تستطع التحكم، ففاض المحتوى وزاد.

عادت وتفحصت الورقتين. فالخطأ الإملائي معيب بالنسبة لها، والخلل في المعلومات يقلل من شأن المحتوى في ما لو سُئلت عنه لاحقا. أما الخط فكان الأنسب بين الخطوط المتاحة على الكومبيوتر، وحجم الكلمات يسهل قراءتها. كما دققت في المسافة بين الأسطر، وفي تقسيم النص.

وبما أن الكتابة تعبر بالضرورة عن صاحبها، فالمكتوب أمامها، لا يعبر عنها فقط، بل إنه هي بالتحديد! هكذا حولتها الورقتان إلى كلمات، إلى شيء غير ملموس، إلى جملٍ مختصرة ومكثّفة.

حزنت إلى ما آل إليه حالها، صارت عدداً من الأسطر. رغم أنها، في قرارة نفسها، تجدها عدداً لا محدوداً من الكلمات. فكيف استطاعت أن تحجِّم ذاتها بهذا القدر وتجعلها صفحتين؟

إنها الشروط، هكذا يصاغ هذا النوع من الكتابة، بالاختصار قدر الإمكان، لأنها كما يسمونها "سيرة ذاتية".

أشفقت على شخصها، ليس لأنها أفضل من "المكتوب"، لكنها خشيت ألا تكون السطور قد عبرت بشكل كاف عن "ها". والأرجح أن مرد حزنها ببساطة أنها تحولت إلى وهم إنسان، إلى صورة مفترضة لشخص، مهما كُتب عن صفاته وخبراته يبقى لديه المزيد الذي لا يُكتب.

لم ترفق صورتها مع الكتابة، كما يفعل بعضهم، فقد تكون نقطة في غير صالحها، فالانطباعات والأحكام تُبنى غالباً على الشكل!

بحكم عملها، كانت تتلقى أوراقاً من هذا النوع. تدقق في اختصاصات أصحابها وسنوات خبرتهم. كانت "سيرهم الذاتية" الناطق الرسمي باسمهم، والمدافع عنهم. كانت الأوراق تنوب عنهم، هم صامتون والكلمات تحاول جاهدة أن تنطق بألسنتهم. ويظلون أشخاصاً وهميين طالما أن أوراقهم لم تلق الصدى المطلوب لدى صاحب القرار.

هذا هو الشكل المعتمد للتعريف عن الذات، إنه بمنظار عالم اليوم الحل الأمثل لمقابلة أكبر عدد من الناس من دون "مقابلتهم".

عندما نقحت سيرتها الذاتية واختصرتها وفقاً للمستجد من المعايير، صارت ترى السيَر الذاتية من منظار آخر. وجدت العذر لمن كتب سيرة ذاتية من عشر صفحات. وبررت له أسلوبه بإظهار الأنا لديه. ففرصته بالتعريف عن نفسه قاسها بعدد الصفحات، ولما لا؟ فالكم أحد المؤشرت على غنى المحتوى أيضاً.

"السير الذاتية" تلغي الجانب الإنساني، فهي تشبه العمل الإعلاني، إنها ترويج للذات. فتُختصر "الأنا" لتصبح مجموعة من الأفعال والخطوات العملية.

وقبل أن تنوي إرسال سيرتها الذاتية بنسختها الإلكترونية إلى الجهة التي "قد" تقرأها، خطرت ببالها جملة من التساؤلات، وجدتها نواة للبحث عن الذات أمام الآخر: من يكتب السيرة الذاتية؟ ومن يحتاج فعلياً للتعريف عن نفسه من خلال سيرة ذاتية؟ (بعض الأشخاص لا يحتاجون لسيرة تعرِّف عنهم، فهم أشهر من أن يُعرّفوا...) ولمن نكتب السيرة الذاتية؟ ومن يقرأها؟

أسئلة في حال الحصول على إجابات عنها، قد تؤدي إلى إعادة النظر في كتابة السير الذاتية، وربما إلى صرف النظر عن كتابتها أصلاً. 

اقرأ أيضاً: حكواتي :سيرتي على كل لسان

                                         

دلالات
المساهمون