سيرة بغداد ومخاوفها

02 ابريل 2020
غزو المغول لبغداد في مخطوط فارسي، 1258(المكتبة الوطنية الفرنسية)
+ الخط -

بغداد مدينة عظيمة بُنيت أول ما بنيت لتكون مركز العالم بالمعنى الحقيقي للكلمة. من هنا جاءها اسم مدينة السلام، الذي لم يكن سلاماً بالمعنى المحايد للكلمة وإنما السلام الذي تسبغه عاصمة إمبراطورية فائقة القوة على الممالك التي تنضوي تحت لوائها كما كان الحال في روما الإمبراطورية وكما هو حالنا اليوم مع الإمبراطورية الأميركية التي، وإن كانت سيطرتها في تراجع، إلا أنها ما زالت تهيمن على العالم.

ولكن بغداد أيضاً مدينة عانت من الافتراق بين حكامها ومحكوميها طيلة تاريخها، فقد تجنّب حكامها عبر العصور المختلفة السكنى قرب رعاياهم ما استطاعوا، مما أضفى على المدينة طابعين اثنين ما زالت تعاني من واحدهما على الأقل. الأول هو التغيير المستمر لسكن الخليفة، مما أدى إلى هجران الحكّام المتعاقبين لقصور سابقيهم وتركها لتتآكل ببطء وتختفي في النهاية ليبقى اليوم قصر صغير يُعرف بالقصر العباسي وإن كانت الصفة والموصوف مشكوكاً بأمرهما. والثاني هو انعزال الطبقة الحاكمة عن عموم سكان المدينة في مناطق خاصة، أحياناً قابعة خلف أسوار عالية، مما نرى له موازياً في انعزال الطبقة السياسية العراقية اليوم وأجهزتها في منطقتها الخضراء المحصّنة بوسائل عدة في قلب المدينة.

أسس بغداد الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور عام 762م بعدما قضى بعض الوقت وهو يفتش عن موقع مناسب للعاصمة الجديدة للخلافة. وكان ذلك بعد أن استقر رأيه على ألا يتخذ أي مدينة قائمة في العراق عاصمة إثر القلاقل التي أثارها ثوّار الراوندية ضده في عاصمته الأولى الهاشمية قرب الكوفة. ومن ثم فقد جاب ساحل دجلة صعوداً وهبوطاً حتى استقر على موقع بغداد المرتفع شمال عاصمتين مهمتين للبلاد قبلها: بابل، عاصمة الإمبراطورية البابلية الأولى والثانية وعاصمة المقدونيين الأولى في بلاد ما بين النهرين، وقطيسيفون عاصمة البارثيين والساسانيين التي سماها العرب المدائن، جمع مدينة، لعظمتها واتساعها.

بنيت بغداد أول ما بنيت وفق مخطط دائري تام، أكمل من أي مدينة دائرية قبلها مما بُني في بلاد فارس ووسط آسيا في العهود البارثية والساسانية. وفي هذا الشكل المدوّر رمز للاكتمال والمركزية في آن: اكتمال التخطيط واحتواؤه على كل ما يلزم لإدارة عاصمة إمبراطورية مترامية الأطراف، ومركزية واضحة تضع الحاكم في القلب من دوائر صنع القرار وتنفيذه وحمايته المتتالية حوله.

وقد جعل الخليفة لبغداد سورين منيعين وخندقاً غمر بماء دجلة، وأنشأ لها أربعة أبواب هائلة، جلبت بعض أعمدتها من بعلبك الرومانية، وسماها باب خراسان وباب الشام وباب الكوفة وباب البصرة، في دلالة واضحة لطموحه الإمبراطوري، فكل واحد من هذه الأبواب الأربعة يؤدي لواحدة من الجهات الأربع التي امتدت إليها أركان الخلافة الواسعة. باب خراسان مدخل الخلافة إلى هذه المقاطعة الاستراتيجية التي هي بوابة فارس المستعربة وبلاد طوران خلفها والتي كانت مصدر الدعم الكبير الذي اعتمد عليه العباسيون في ثورتهم الظافرة ضد الأمويين. وقد بقيت هذه البلاد مصدراً للدعم العسكري لعقود طويلة حتى بعد قتل زعيمها أبو مسلم الخراساني الذي كان السند الأول لإنشاء الخلافة العباسية.

أما باب الشام فهو بداية الاتجاه غرباً نحو مصر وبحر الروم (الأبيض المتوسط)، وبلاد الروم أو بيزنطة، المنافس الأول للخلافة الإسلامية، فيما يلعب باب الكوفة دور المنفذ إلى بلاد العرب واليمن، موطن الفاتحين الأول ومهد رسالتهم وهدايتهم، أما باب البصرة فهو المنفذ البحري باتجاه البلاد البعيدة والعظيمة العجائبية: الصين والهند.

وقد كان لبعض الفرس أو المتفرسين من سكان وسط آسيا أدوار مهمة في تكييف مخطط بغداد غير المعهود بما يتوافق وتراثهم العمراني والرمزي. وكان على رأس هؤلاء الناصحون المؤثرون نوبخت الفارسي عرّاف الخليفة الذي حدد له الوقت الميمون للبدء بإنشاء العاصمة وربما موقعها وشكلها أيضاً. وهناك خالد بن برمك مؤسس الأسرة البرمكية التي ستلعب دوراً هاماً في تشكيل الخلافة، والذي بينت بعض المصادر أن أباه برمكاً كان أساساً الكاهن البوذي الأول في مدينة حيرات الأفغانية قبل أن يفتحها المسلمون.

وتوقع بعض الدارسين - على أساس هذه الخلفية - أن خالد بن برمك، الذي كان مقرّباً من أبي جعفر المنصور، هو صاحب فكرة المخطط الدائري ذي الحلقات التي تتوسطها دار الخلافة. هذه الدار العظيمة، التي سمتها المصادر قصر الذهب، والتي رسخت في مركز دائرة المدينة، كان يحدها شمالاً مسجد جامع فقط وتزنرها رحبة كبيرة فارغة من المباني ما خلا قصور أولاد الخليفة لأسباب أمنية كما نقول بلغة اليوم.

أما على محيط الدائرة داخلاً فقد أسس الخليفة أربعة أرباع تفصلها مناهج أو سكك مستقيمة واسعة ربطت ما بين سوري المدينة ورحبة الخليفة وأقيمت على حدودها الأسواق والدكاكين. وقد خصص الخليفة كل ربع من هذه الأرباع لسكنى طائفة من جنده وعمّال دولته، العرب والفرس أو الأبناء الخراسانيين وعنصرين على الأقل ممن سيسمون الأتراك لاحقاً، الفرغانيين والأشروسنيين، لا يخالطهم فيها أحد. وأخرج من مدينته العوام والصنّاع ليقيموا في الكرخ خارج الأسوار التي أتت للوجود كنتيجة لإقامة المدينة المدوّرة حيث أقام فيها العمال والفعلة والبنّاؤون الذين أنشأوا المدينة الدائرية خلال سني عملهم عليها ثم استقرّوا فيها وأنشأوا فيها الأرباض والأسواق.

وهكذا بدأت بغداد كمدينة ملوكية محرّمة محاطة بسورين وخندق. ولكن الوساوس كانت ترتاد أبا جعفر المنصور خاصة عندما بدأت جموع الرعية بالتوافد للسكنى حول مدينته الملوكية الدائرية فهجرها، وانتقل للإقامة في قصر محصّن، عرف بقصر الخُلد (لاحظوا "التواضع" في التسمية) أنشأه على الجانب الشمالي لدجلة قرب قصر ابنه المهدي ومدينته المحصّنة أيضاً المعروفة بالرصافة.

اضمحلت بغداد الملوكية وتوسعت الكرخ لتقضم أطرافها ثم أكلت قلبها بما فيه القصر والمسجد الجامع، وتهاوى شكلها الدائري المكتمل واختفت مبانيها التي استخدم موادها سكّان جددٌ من العوام غزوا فضاء المدينة الدائرية واستوطنوها عندما زال عنها التحريم الخليفتي. وظهر للوجود المخطّط العفوي، الطبيعي المعهود للمدن القروسطية الإسلامية بخططه وأحيائه المنكفئة على نفسها والعضوية عمرانياً وتخطيطياً وبسككه الضيّقة والمتعرجة التي لا تشكل شبكة كاملة ومتصلة وإنما تشبه التسلسل المتدرج لأغصان الشجر.

ولم يبق اليوم من مدينة أبي جعفر الدائرية أي أثر ولا حتى بقية أركيولوجية، بل ذابت كلها في خضم الأحياء الشعبية التي ما زالت بهذه الصفة إلى اليوم في الكرخ وغيرها. ولكن مدينة محرّمة معاصرة، "المنطقة الخضراء"، ظهرت إلى الجنوب الغربي من موقعها، واقتبست من صفاتها الانعزالية والترفّع والهوس بالأمن.


* مؤرّخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

دلالات
المساهمون