سيرة الأمير محمد علي في رحلته اليابانية

24 اغسطس 2019
من رحم التقاليد صعدت اليابان
+ الخط -


ظلّ الأمير محمد علي مهووساً بزيارة اليابان، لقد كان صعود نجم هذا البلد في سماء البلدان المتقدمة محرضاً أساسياً على القيام بهذه الزيارة.

فالأمير، الذي قام بعدد من الزيارات إلى أوروبا، وإلى بلدان في المشرق العربي، الأولى من أجل الاطلاع على منجزات الغرب، والثانية من أجل الوقوف على أحوال العرب، وجد في النموذج الياباني البلد الشبيه بالعالم العربي، الذي كان حتى وقت قريب يغرق في التخلف، لكن فجأة هبّت عليه رياح التفوق الحضاري والعلمي، فاستيقظ خارجاً من ظلمات التخلف، إلى أدراج النور.

وكان المحرض الأساس، لمحمد علي، هو انتصار اليابان على روسيا سنة 1905، وبالتالي استيقظ في عقله سؤال، كيف يمكن لبلد صغير أن يهزم إمبراطورية عتيدة، لا شك أن في الأمر سراً وسحراً ما، وهذا ما سعى إلى اكتشافه في "الرحلة اليابانية" والتي تزخر بالكثير من التفاصيل ومن الإعجاب البين والمعبر عنه بين السطور ومن التوقد لفهم هذا البلد الغريب الذي يجمع بين نظام تقليدي مغرق في تقليدانيته، وبين السعي لكسب العلم والمعرفة.

بدأ محمد علي رحلته في أول إبريل/ نيسان سنة 1909م من الإسكندرية منتقلاً إلى موسكو عبر إيطاليا والنمسا، ثمَّ استقلَّ القطار في سيبيريا وصولاً إلى الأرخبيل الياباني وما جاوره من بلدان، قاطعاً حوالي 25 ألف كيلومتر في مدَّة شهرين ونصف الشهر.


الوصول إلى اليابان

يكتب محمد علي بابتهاج واضح، ويؤرّخ للحظة وصوله إلى اليابان "إن السرور الذي حصل لنا عند وضع أقدامنا على الأرض اليابانية، بعد ما لَحِقَنا من أتعاب ذلك السفر الطويل كان مقداره عظيماً جدّاً، حتى كان يتخيل لنا أننا كأننا وُجدنا من العدم، ونُجدنا من الهلاك، وكان في الانتظار جملة من الناس لقصد التفرج على السوَّاح على اختلاف أنواعهم، والكل متبسمون تظهر عليهم علامات السرور، ومن الرصيف إلى الجمرك مسافة صغيرة، ورأينا من مستخدمي الجمارك بعكس ما سمعناه عنهم؛ لأنهم قابلونا بجميع أنواع الملاطفة والموادعة، وقضوا لنا أشغالنا بغاية السرعة وتمام الإنسانية".

ومع الخطوات الأولى في البلد الغريب، تبدأ الدهشة، إذ يكتب محمد علي "ومن أغرب ما رأيت أنه مع كون الوقت كان في البدرية رأيت شابّاً صغيراً لا يتجاوز الرابعة عشرة من سنه، ومعه كيس فيه نقود لا تقل عن أربعمائة جنيه لأجل المصارفة للسوَّاح، وهذا يدلنا على أنهم في غاية من الأمانة، حتى يؤمن شاب مثل هذا على تلك النقود الكثيرة، ولا يخشى عليه من ضياعها.

ورأيت أنهم يلبسون نعالاً أو قباقيب من خشب لحفظ أرجلهم من الأوساخ، وأنهم يحبون النظافة؛ ولذلك تراها ظاهرة على رجالهم ونسائهم وأطفالهم، وبدلاً عن أن نركب عربة يجرها رجلان تسمى: (ركشه) قد مشينا على أرجلنا؛ لأجل أن نتفرج على أحوالهم وأماكنهم، وكان ذلك صباحاً وهم مشتغلون بفتح دكاكينهم".

إن اللقاء الأول بهذا العالم البعيد، والمتسم بدقة تفاصيل حياته اليومية، لا بد أنه أيقظ في محمد علي الكثير من المقارنات بين ما عاشه في مصر وما رآه عند العرب من فوضى في المعيش، وما يعاينه هنا في اليابان.

يقول "ورأينا بيوتهم فوجدناها بيوتاً لطيفة والماء يجري أمامها في مجارٍ صغيرة، ورأينا عندهم قناطر كبيرة كلها من الخشب، والماء العذب موجود بكل جهة، وترى النساء والأطفال مشتغلين بغسل ملابسهم، وكان هذا منظراً جميلاً، ثم وقفت لشراء أوراق بوستة عليها مناظر فوتوغرافيَّة، والدكاكين مرتفعة، وبجوار كل واحد منها قطعة يمكن الجلوس عليها.

وهذه الدكاكين تشبه الدكاكين المصرية القديمة، غير أنها أنظف منها، وكل من أراد أن يجلس مع صاحب الدكان لا بد أن يخلع نعليه، ثم يدخل ويجلس معه، وبيوتهم في (سروجة) صغيرة جدّاً، وقليلة الارتفاع، وهي موضوعة تحت جبال عالية لتحفظها من شدَّة الهواء، وتقِيَها من برد الشتاء.

ولما توجهنا جهة المحطة وجدنا قربها معبداً، ووصلنا إلى المحطة، ولم نحصل على التذاكر إلا بكل مشقة؛ لعدم التفاهم ولو أن معنا ترجماناً، إلا أنه كان يتكلم باللغة الإنكليزية مع كونه ما كان يفهم منها إلا شيئاً قليلاً، فطلبنا التذاكر من الدرجة الأولى وأعطيت لنا، إلا أنهم أخبرونا أن السكة من سروجة إلى (ميبرة) ليس بها عربات من الدرجة الأولى، ثم وزنوا ما معنا من الصناديق، ووضعوا على كل صندوق نمرة وحلقة من النحاس، وأعطونا مثلها قطعاً تشبه عملة النحاس التي كانت مستعملة بمصر من زمن قريب فأعطيتها لخادمي، وهذه القطع تُعطى للشيء الذي يتبع الراكب ولا يُدْفَع عليه شيء، وأما سواه فإنه يُعطى لصاحبه ورقة مكتوبة كالجاري بجميع الجهات الأخرى".

بستان لكل منزل

ومع توالي المشاهدات تكبر الدهشة، ثم لا يجد محمد علي أمامه من سبيل إلا تلمّس عظمة هذا الشعب في كل مناحي الحياة، من تجارة وصناعة وزراعة، وقد أبهره في كل هذا وذاك، حس الإتقان الرفيع، الذي لا يوجد في البلاد العربية.

يقول "ورأيت الأراضي الزراعية في غاية النظام، قد أخذت زخرفها وازَّيَّنت بالزراعة، حتى إنه يخيل لرائيها أنها بساتين أو روابٍ ذات قرار ومعين، ومروج زاهرة، وجنات باهرة، وكل الحدود عندهم على خطوط مستقيمة، ورأيت أن الكُفُور عندهم ينتخبون لها أحسن المواقع، ويضعونها في وسط أشجار وأنهار؛ لأجل أن تقيها من شدة الحر في الصيف وقارس البرد في الشتاء، وكل منزل من المنازل له بستان يناسبه؛ ولذلك يظهر على كل بيت منها البهجة والسرور.

ولما رأيت هذه الحالة صرت في غاية من الفرح حتى صار يخيل لي أني في جنة عالية، قطوفها دانية، وكانت تظهر علامات السرور أيضاً على جميع السواح الذين كانوا معنا، ورأيت أن هذه البلاد يوجد بها من المناظر الجميلة ما يوجد في سويسرا، إلا أن جبالها أعلى. ومن حسن الحظ أن ذلك كان في فصل الربيع، وأن جميع الأشجار كانت في غاية من النضارة والبهجة.

وكنا نرى أن نساءهم يشتغلن بزراعة الأرز، التي هي أعظم زراعاتهم، وتكون دائماً زراعته في الأراضي المغمورة بالمياه".


جبل نوجي المحترم

المائدة اليابانية كانت من الأشياء التي ستُثير اهتمام محمد علي، بالإضافة إلى آداب الأكل، يقول "وكان الأكل عند محطة ميبرة مناسبًا، ولقلة الخدم وكثرة السائحين صرنا نأخذ ما يلزم لنا من المطبخ بأيدينا، ووجدنا أن الخدم والطباخين في غاية من الأدب، وكانت تحيتهم لنا بالركوع عند كل كلمة، وإن الإنسان إذا أعطاهم أي شيء على سبيل المنحة والصدقة يرون أنه شيء عظيم، ويأخذونه بغاية البشر والابتسام، والأدب والاحترام، مهما كانت حالته، وقلّت قيمته.

ثم سار القطار بنا من ميبرة إلى (تكيو)، وهذه مسافة ساعتين قد مررنا فيهما على بلاد كثيرة، ومناظر جميلة لا يمكن التعبير عنها، ولا وصفها حق وصفها، مهما جاد القلم ونطق بالحكم (… فما راءٍ كمن سمعَا)، وقد مررنا على بحيرة كبيرة تسمى (بيو)، وبقربها الجبل العظيم المسمى (نوجي)، وهو جبل محترم عندهم كاحترام جبل عرفات عندنا، وهو جبل عظيم الارتفاع؛ ولذلك لا يكاد الثلج ينقطع من قمته حتى في وقت الصيف، ولحبهم له وما اشتمل عليه من حسن المنظر تراهم يرسمونه دائماً بمناظره على كل صناعاتهم، وبعد ذلك قد وصلنا إلى (يوكوهاما)، وهي ميناء تجاري كبير مهم، وأهميتها لكونها قريبة من (تكيو)، التي هي القاعدة والعاصمة، ومنها بعد عشرين دقيقة قد وصلنا إلى (تكيو) عاصمة البلاد اليابانية".


الإمبراطور لا يخرج إلا نادراً

العمران ملمح مهم، ومحمد علي لا يترك شاردة أو واردة إلا ويذكرها، يقول "وأول شيء بدأنا به بعد وصولنا هو الاستحمام عقب هذا السفر الطويل، وكان أول ما خطر بفكري أن أتوجه صباحاً إلى يوكوهاما؛ لأجل الحصول على ترجمان، والمقابلة مع مندوب شركة كوك التي هي متعهدة لنا بقضاء جميع ما يلزم في أي سفر كان إلى أي جهة كانت من نحو عشرين سنة، فلما سألت بواب الفندق عن مواعيد القطارات التي توصل صباحاً إلى يوكوهاما، وأخبرته بغرضي؛ أخبرني أن ذلك المندوب الذي أريد مقابلته هو بالفندق بالنسبة لسياحة وكيل جمهورية الولايات المتحدة الأميركية، فسررت بذلك، وأرسلت له بطاقة الزيارة التي فيها اسمي، فحضر توّاً، وأخبرته بجميع ما هو لازم.

ولما أصبح الصباح توجهنا لأجل أن ننظر الأشياء الموجودة بهذه البلدة، فاطلعنا فيها على جملة شوارع فيها قصور مشيدة ومبانٍ عالية، ومن جملة ما رأيناه سراي الملك؛ حيث إننا قد مررنا عليها فوجدناها تشبه قلعة في وسط البلد، محاطة بخندق غير أنه مملوء بالماء، وأخبرنا الترجمان أن الإمبراطور لا يخرج إلا نادراً في بعض الأعياد والمواسم، والترجمان الذي معنا مع كونه شيخاً كبيراً ورجلاً كهلاً قد أخبرني أنه إلى الآن ما رأى الإمبراطور مرة واحدة.

ثم توجهنا إلى شارع كبير واسع سعته نحو مائة متر، وطوله ثمانية كيلومترات، وبه مركبات كهربائية - المعروفة بالترام - ثم اطلعنا على دار الكتب المعروفة ﺑ(الكتبخانة) وجملة متاحف، وبالنسبة لحداثة عهد مدنيتهم ليس عندهم في متاحفهم أشياء كثيرة ولا نفائس مهمة".


خلع نعال ورقص وتكتم

سيذهب محمد علي إلى مطاعم ومراقص اليابانيين، وإن كان الرقص لم يمتعه، فإن الطعام ما وجد فيه ضالته، مع التفاته إلى أهمية النظافة عندهم وشيوعها والتأدب في الدخول إلى البيوت.

يكتب "في هذه الليلة قد عزمنا على أن نتوجه إلى الفندق الأهلي الياباني الذي سبق الكلام عليه، فأخبرونا أن ما يدفعه الشخص الواحد من النقود قيمة أكله 2 ين ونصف، وما يدفعه عن التفرج على المرقص 25 ينّاً، فتوجهنا وقت الغروب إليه، وبمجرد وصولنا قابلنا عدة نساء من اليابانيات على بابه، وأخبرنا بأنه لا بد من خلع النعال؛ لأن المحل مفروش.

ومن ضمن هؤلاء بنت صغيرة تبلغ من العمر نحو تسع سنين، ومشت أمامنا لأجل أن تدلنا على المحل الذي نجلس فيه، وهي في غاية من النظافة والخلاعة، فوصلنا إلى رحبة كبيرة حيطانها الأربعة من الورق السميك، وبها كثير من الرسوم اليابانية البديعة الأشكال والألوان، فوجدنا بها وسادات على الأرض ومقاعد بسيطة ليس بها سواها، مع سعة الحجرة ونظافتها، وبمجرد وصولنا إلى هذه الحجرة وجلوسنا فيها قد أتت عدَّة نساء، وأحضرن أمام كل واحد منا خواناً صغيراً؛ لأجل وضع الأكل عليه، فجلسنا على هذه المقاعد متربعين كالعادة العربية، ثم أحضروا لنا الأكل.

فأوَّلاً قد أحضروا لنا المرقة المعروفة بالشربة، ولم يحضروا لنا ملاعق لأجلها، بل إنهم من غريب أمرهم أنهم قد استعاضوا عنها بكاسات صغيرة يشربونها بها، وبعد ذلك أحضروا لنا نوعاً من السمك حسن الصنع، وعدَّة من أنواع الخضراوات والأرز، وكان الأكل بواسطة خشبتين صغيرتين يقبضهما الإنسان ويجعلهما شبه (الماشة) ثم يأكل بهما، وكل شخص له آنية مخصوصة.

والخادمات يخرجن ويدخلن معاً عند حضور أي طعام كان، ولما انتهى الأكل ورفع من أمامنا، حيتنا هؤلاء الخادمات بالسجود على الأرض - كما هي عادتهن - وبعد ذلك فتحت الحائط التي كانت أمامنا، لأن بيوتهم مبنية من حيطان من الورق؛ ولذلك ينقلونها على حسب أغراضهم واحتياجاتهم، وبعد أن فتحت هذه الحائط ابتدأ الرقص، فوجدناه بحالة لم نسر منها.

والموسيقى عندهم كذلك ليست على ما ينبغي؛ لأنها عبارة عن ست بنات، كل اثنتين لهما عمل مخصوص، فاثنتان منهم تلعبان بشيء يشبه العود وبأيديهما قطعة تضربان عليها، واثنتان تصفران بصفارة، واثنتان تغنيان، والجميع يفعلن ذلك بحالة محزنة كأنهن يبكين، وبعدما رأينا كل ما فعلوه، ورأينا أن الرقص كأنه حركات أخرس يريد أن يفهم الكلام إلى سواه؛ أعطيناهم المطلوب وبعض نقود على سبيل الصدقة، فسررن بذلك سروراً كثيراً، ثم أخبرني الترجمان أن هذا الرقص ليس هو من عادات اليابانيات، وإنما يفعلن ذلك مرضاة للسوَّاح لأجل كسبهن".

ويسوق محمد علي ملاحظة غاية في الأهمية، وهي تتصل بتكتم اليابانيين، يقول "وفي يوم آخر قد توجهنا لزيارة الرياض والبساتين، وبقينا طول يومنا، وعند رجوعنا في الساعة السابعة بعد الظهر كان بالفندق وليمة كبيرة من الأميرال وضباط الأسطول الأميركاني، الذي قد جاء زائراً اليابان للأميرال توجو، وضباط البحرية اليابانية، وكانت الموسيقى التي تضرب لهم وقت تناول الطعام كل أفرادها عبيد أميركانيون.

ومع كون الحالة كانت سارَّة، إلا أن الشيء الذي يؤسف عليه ويُكَرِّه الإقامةَ للغريب في هذه البلاد هو: أن اليابانيين مع ما وصلوا إليه من التقدم والحضارة يريدون أن يأخذوا من أي شخص كل شيء، ولا يطلعونه على شيء".

المساهمون