سيد النقشبندي: صوت من السماء

19 مايو 2019
لا أستطيع مدحاً لقوم كان جبريل خادماً لأبيهم (أرشيف)
+ الخط -
ارتبط اسم الشيخ سيد النقشبندي بشهر رمضان ارتباطاً وثيقاً لم يتحقق لأحد من زملائه، ولا حتى من أصحاب الأسماء الكبيرة في عالم الإنشاد الديني. فصوته يمتد على مساحة أوكتافين، تنتشر بين درجتي دو راست وجواب الكردان. هو من تلك الأصوات الكبيرة، ذات الرنين القوي اللامع. يتصاعد بصوته من القرار إلى الوسط، ومن الوسط إلى الجوابات، ومنها إلى جوابات الجوابات.

النقشبندي؛ كلمة مكونة من جزأين: نقش وبند، أي النقش على القلب، أو نقش اسم الله على القلب، وهي طريقة صوفية انتسب إليها آباء الشيخ وأجداده، حيث التصوف، وخشوع القلب، وحب النبي وآل بيته.

ولد الشيخ سيد محمد النقشبندي في 12 مارس/آذار عام 1921 في قرية دميرة، التابعة لمركز طلخا، في محافظة الدقهلية في مصر، لكن سرعان ما انتقلت أسرته إلى مدينة طهطا جنوب الصعيد، وفيها حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد خليل ولم يتجاوز عمره ثماني سنوات. كما بدأ في تعلم الإنشاد الديني من خلال حضوره حلقات الذكر لمريدي الطريقة النقشبندية، التي انتمى إليها جده الشيخ محمد بهاء الدين النقشبندي، الذي نزح من بخارى في ولاية أذربيجان إلى مصر، للالتحاق بالأزهر الشريف، ووالده الشيخ محمد النقشبندي، أحد علماء الدين ومشايخ الطريقة النقشبندية الصوفية، كان يتردد على مولد أبي الحجاج الأقصري، وعبد الرحيم القناوي، وجلال الدين السيوطي، وبدأ في حفظ أشعار البوصيري وابن الفارض. في عام 1955، انتقل إلى مدينة طنطا، واستقر فيها بجوار ضريح القطب الصوفي الشهير أحمد البدوي، يرسل شدوه للزوار المحبين، عازفاً عن الإقامة في القاهرة، رغم بريقها وجاذبيتها واتساع فرص الشهرة فيها.

أما انطلاقة النقشبندي الكبرى، فجاءت عند إحيائه حفل المولد في مسجد السيدة زينب، بحضور الإذاعي الشهير مصطفى صادق، الذي شده صوت الشيخ فقدمه لمدير إذاعة البرنامج العام في القاهرة، محمد محمود شعبان. من وقتها، انطلق صوت الشيخ إلى الإذاعات العربية، وعرفه العالم الإسلامي. في عام 1968، في مسجد الإمام الحسين، كان الشيخ يحيي الليلة الختامية للمولد النبوي الشريف، والتقى مصادفةً بالإذاعي أحمد فراج، الذي قدمه للإذاعة والتلفزيون في ما بعد.

قدم الشيخ سيد النقشبندي مختلف فنون الإنشاد الديني، من ابتهالات وتواشيح، وقراءة الموالد إلى الأناشيد التي لحنها له كبار الموسيقيين. اتسم الشيخ بطاقة صوتية هائلة، لا سيما في أداء الدرجات العليا، ومنطقة الجوابات وجوابات الجوابات، وقد انهالت الدعوات عليه لإحياء المحافل الكبرى في مصر وخارجها، فزار لبنان وسورية، وإيران، والعراق، والإمارات، والأردن والسودان واليمن، وبلاد المغرب العربي، وإندونيسيا، وغيرها.

حقق الشيخ النقشبندي شهرة كبيرة جداً داخل مصر وخارجها قبل أن يلتحق بالإذاعة، فقد أحيا ليالي تاريخية في المساجد الكبرى في سورية، وعلى رأسها المسجد الأموي عام 1957. واتسمت محافل النقشبندي في سورية بحضور جماهيري واسع، وحفاوة بالغة من المستمعين في دمشق وحلب وحمص وحماة، وغيرها من المدن السورية.

يعد الشيخ النقشبندي من أكثر المنشدين إنتاجاً لأعمال مصحوبة بالموسيقى. في عام 1968، سجل الشيخ 30 نشيداً من ألحان حلمي أمين، وكلمات أخيه عبد السلام أمين، والتي اشتهرت بمجموعة "سبحانك ربي سبحانك". وبدأ في نفس العام تسجيل ما عرفه المستمعون باسم دعاء رمضان، وقد استمرت عادة الشيخ تلك على مدار ثماني سنوات سجل خلالها 240 دعاء، كلها من كلمات الشاعر محمود إسماعيل جاد.

وفي سبتمبر/ أيلول من عام 1971، حضر الشيخ سيد حفل زفاف ابنة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وحضر نفس الحفل الملحن بليغ حمدي، فأبدى السادات رغبته في الاستماع إلى صوت الشيخ بألحان بليغ. كانت بداية تعاون بين الرجلين، أثمر 15 نشيداً، كتبها الشاعر عبد الفتاح مصطفى، لعل أشهرها نشيد "مولاي".

كان النقشبندي موصولاً بآل البيت، يحمل في قلبه مودة كبيرة لهم، ويحرص على إحياء ذكراهم، ويلتقي بجمهوره في المساجد التي تضم مقامات أهل البيت في القاهرة، لا سيما في مسجد الإمام الحسين والسيدة زينب. في مدائحه يقول: "قال لي قائل.. رأيتك تهوى آل طه.. ودائماً ترتجيهم.. كان حقاً عليك أن تقضي العمر مادحاً فيهم.. وفي من يليهم.. قلت ماذا أقول والكون طراً يستمد النوال من أيديهم.. أنا لا أستطيع مدحاً لقوم كان جبريل خادماً لأبيهم".
كانت الجماهير تلتف حول صوت النقشبندي خلال الاحتفالات الدينية الكبرى، وفي إحياء المناسبات الإسلامية، مثل مولد النبي، وذكرى الهجرة النبوية، وليلة القدر، والإسراء والمعراج. كان التجاوب معه كبيراً، لكن النقشبندي سجل أيضاً عدداً كبيراً من الابتهالات والأناشيد داخل الاستوديوهات، وبعيداً عن الجمهور، وحققت هذه التسجيلات نجاحاً كبيراً.

واكب النقشبندي بصوته قضايا أمته، وأيد بأدعيته وابتهالاته مصر في حربها مع إسرائيل، وسجل عدة أناشيد لرفع الروح المعنوية للجنود المصريين في سيناء والقنطرة، ومساندة المقاومة الشعبية في السويس.
وحين حاولت القوات الإسرائيلية دخول مدينة القنطرة أثناء حرب أكتوبر 1973، أنشد النقشبندي "نادى جنود الله يوم القنطرة.. لا زالت عالية اللواء مظفرة".

أما فلسطين، فكان لها في إنشاد النقشبندي نصيب وافر، فها هو ويرفع بصوته إلى الله الشكوى: "فلسطين نادت وهي تبكي.. ودمعها وإن حجبته الكبرياء يسيلُ / وفي روحها للحزن نارٌ ولوعة.. وللصبر فيها ضجة ٌوعويلُ/ إلهي فانصرها على كل ظالم.. فأنت بنصر الأولياء كفيلُ/ إلهي وليرجع إلى الأرض أهلها.. ففيهم حنينٌ للرجوع طويلُ".


ومن أهم ما وثق العرى بين النقشبندي وشهر رمضان، أذانه الشهير من مقام الحجاز، لا سيما مع كثرة بثه وقت المغرب، وكذلك أدعيته التي تبثها الإذاعة يومياً أثناء اجتماع الأسر المصرية على مائدة الإفطار.

سألنا المهندس رضا حسن، أهم جامعي تراث الشيخ النقشبندي وموثقي سيرته ورحلته الفنية، عن تراث الشيخ المفقود أو الذي لا تبثه الإذاعة، فقال إن "الشيخ النقشبندي ترك عدداً كبيراً جداً من التسجيلات، منها مئات المحافل الجماهيرية، وآلاف من تسجيلات الاستوديو، أكثرها لا تبث، وبعضها يمسكها هواة احتكار النوادر". يناشد رضا كل من يملك تسجيلاً للشيخ النقشبندي أن يتيحه للجمهور، حتى لا يضيع بالإهمال أو النسيان.
يشير حسن إلى أن الشيخ سيد أنشد 30 دعاء من كلمات الشاعر محمد السيد ندا، وقد وضع لها الموسيقار عمار الشريعي "تترات" بداية ونهاية. كما يؤكد أن الشيخ سجل 30 دعاء من ألحان الموسيقار إبراهيم رجب، بثها تلفزيون الأردن، كما سجل أيضاً 30 عملاً ضمن المسلسل الإذاعي "سلطان العاشقين"، وكذلك سجل 30 دعاء ضمن مسلسل سلمان الفارسي، من ألحان الموسيقار محمد الموجي.. يطالب الحاج رضا مسؤولي الإذاعة ببث هذه التسجيلات، ولا سيما في شهر رمضان.

في 14 فبراير/شباط 1976، رحل إمام المداحين عن 55 عاماً، ودفن في حي البساتين في القاهرة، إلى جوار قبر والدته قرب مسجد السادة الخلوتية، وكرمته مصر بمنحه وسام الجمهورية من الطبقة الأولى مرتين، لكن التكريم الأكبر بقي متمثلاً في حب الجماهير لصوته، وفي حضوره الدائم رغم مرور عقود على الرحيل.
دلالات
المساهمون