قدَرُ طنجة ألّا يفارقها كاتبها محمد شكري، وأن يباغتها بين الحين والآخر بحضوره، منتصراً على الموت الذي يفشل في تغييبه.
يتأكّد ذلك بصدور روايته "السوق الداخلي"، في ترجمة إسبانية بعنوان "Zoco Chico" (أي "السوق الصغير"، وفق تسمية الإسبانيين للمكان)، عن دار النشر "كباريت فولتير"، أنجزتها المترجمتان كريمة حجاج ومليكة امبارك لوبّيث، اللتان سبق لهما أن ترجمتا له "زمن الأخطاء" وهو على قيد الحياة، بإشراف وإسهام من شكري الذي كان يُتقن الإسبانية.
يكتشف قارئ الرواية سرّ إصرار شكري على التبرّؤ من سيرته "الخبز الحافي"، التي اعتبرها عملاً يسحقه (في حوار أجراه معه الصحافي الإسباني خابيير بلانثويلا في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر 2002 في جريدة "إل باييس")، وأنها لعنةٌ تلاحقه وتَحول دون التفات القرّاء والنقّاد إليه بصفته كاتباً روائياً لا يقتصر إبداعه على سرد سيرته، وإنما يتخطّى ذلك إلى ابتكار عوالم تخييلية من الطراز الرفيع.
"السوق الداخلي" حكاية ثقافية لمجتمع طنجة؛ المدينة الدولية، التقت فيها حكايات متنوّعة، وتلاشت فيها الحدود بين الأجناس الأدبية، حيث يحضر التخييل كقوّة تؤلّف بين القصة والمسرح والسيرة الذاتية والتاريخ والنقد والمغامرة. هكذا، يكون العمل روايةً تستوفي كل البهارات السردية التي تجعل من شكري روائيّاً حقيقيّاً، وليس مجرّد كاتب سيرة ذاتية يقتصر على سرد وقائع من حياته الشخصية.
ومع ذلك، فإن قارئ الرواية يصادف كثيراً من الوقائع السردية التي تُعتبر امتداداً لحياة شكري، لأن النص يزخر بمعالم تُشير إلى حضور سيرة مؤلّف "الخبز الحافي"؛ مثل الهامش، والحرمان، والجنس، والتسكّع، وهي انتظاراتٌ يتوقّعها أي قارئ لشكري.
في هذا العمل، راهن الكاتب على الأدب، وعلى الحكاية والبناء، في وقت كانت أسماء روائيّة مغربية أخرى، مثل أحمد المديني ومحمد عز الدين التازي وغيرهما، قد اجترحت التجريب وأوغلت فيه، واعتبرته مضاهاةً للتجديد الروائي الفرنسي على الخصوص، وبوابةً لولوج "العالمية".
إلى جانب ذلك، راهن شكري على خبرته القرائية التي أفادها من كتّاب أميركا اللاتينية على وجه الخصوص، وقد أفلح في أن يسم عمله بميسم الهامش، لدرجة تجعل منه نموذجاً لرواية الهامش.
ترتبط أجواء العمل بفضاء طنجة، الذي تقاطرت إليه خلال الستينيات من القرن العشرين موجات من الهيبّيّين الأوروبيين والأميركيين، بحياتهم البوهيمية، وشعورهم الطويلة، وتعاطيهم المخدّرات، والذين كانوا يعيشون على هامش مجتمعاتهم، مثلما عاشوا على هامش المجتمع الطنجي أيضاً، وعاشرهم البطل "عليّ"؛ المدرّس طويل الشعر، الذي قرّر الاستقالة من الوظيفة، ليعيش حياته بطولها وعرضها، بين الحلم واليقظة، متجوّلاً بين أرجاء المدينة التي كان فيها محطّ شبهة من قبل الأمن المغربي، شأنه في ذلك شأن الهيبيّين.
واحتكاماً إلى سنة 1976 التي كُتب فيها، وإلى الفترة التي يستعيدها، يبدو النص منخرطاً ضمن الكتابة ما بعد الاستعمارية أو المناهضة للاستعمار. وإن كانت الكتابة بلغة المستعمر ميزة تطبع هذا التوجّه، فإن شكري كتب بالعربية التي تعلّمها بعد الأمازيغية (لغته الأم في الريف) والإسبانية (لغة المستعمر التي تعلّمها في أحياء تطوان) قبل الدارجة المغربية.
ويتأكَّد هذا الوعي لدى شكري في كتابه النقدي "غواية الشحرور الأبيض"، الذي يحفل بانتقاد لاذع للكتابة الاستعمارية، كما هي الحال في مؤاخذاته على الكاتب المغربي الفرانكوفوني الطاهر بنجلون، الذي اتَّسمت كتابتُه بالنزوع "البازاراتي"، لاستهدافه بمؤلَّفاته القارئَ الغربيّ عارضا عليه ثقافةَ الأهالي الغرائبية، دون الالتفات إلى الإيجابي والبنَّاء في ثقافةِ المُستعمَر. وكذلك في انتقاده بعضَ المشارقة على استعمالهم الدارجة في كتاباتهم، دفاعا عن اللغة العربية التي كان يعشقُها.
لكن، كيف تجلّى الوعي المناهض للاستعمار في "السوق الداخلي"؟ لعلّ الدّال على ذلك الوعي هو تلك المقاومة القوية التي يولّدها النص، والتي تسعى لاستعادة ماض منهوب مليء بالقيم، وفي البحث عن هويّةٍ لمدينة طنجة التي عاشت حالةً خاصّة، بمعزل عن المجتمع المغربي؛ "كان ذلك في عهد طنجة الدولية. أيام كان بعض الأجانب لا يصدّقون أن طنجة تقع في المغرب"، مثل الشخصية الرئيسة "علي" الباحث عن هويّته واستقراره، والراغب في تحقيق ذاته.
يعلن النص عن ذاته خطاباً مناقضاً للخطاب الكولونيالي، لأنه يتبنّى إيديولوجيا تهاجم مصادرات المستعمِر سابقاً وممارساته ونزوعه إلى تصدير شروره إلى التابع المستعمَر السابق. لم يقل شكري ذلك صراحةً، لكن مؤشّرات كثيرة تدل على ذلك.
وإذا كان شكري قد اعتمد على العربية في الاحتجاج جمالياً على الخطاب الكولونيالي، فإن المترجمتَين قامتا بالدور الآخر التكميليّ، وهو إيصال نصّه إلى الآخر، في أسلوب إسباني شيّق، قد يجعل قارئه يعتقد أنه أُلّف بلغة ثيربانتس رأساً.
تبرز أهمّية عمل المترجمتين في قدرتهما على تدجين الإحالات الثقافية التي يحفل بها النص، والقيام بدور الوسيط الثقافي، بين اللغة الإسبانية ولغة العمل الأم.