سوق للخضار تصدّر الزاوية، تدافع الناس نحو باب توسط سلال الفاكهة، يُفضي إلى دكان بقالة عميقٍ ومُظلم. بمحاذاته، وعلى ناصية شارع فرعي، تمترست ثلّة من الفتيان الملتحين، خلف صناديق افترشت الطريق حتى احتلت نصفه تقريباً، فيما يُشبه حاجزاً أمنياً لإحدى "اللجان الشعبية". تسمع من بين الحشد بين كل حين، صوتاً يصيح وعلى الملأ: "كيلو الخيار بيورو".
ليس ذلك مشهداً في إحدى حلقات المسلسلات الشامية، على واحدة من الفضائيات العربية، في عشيّة رمضانية. وإنما مُقدمة شارعٍ بطول خمسة كيلومترات، يصل شرق العاصمة الألمانية برلين بغربها، ويُعد أحد شرايين الحياة الرئيسية فيها.
شارع الزونن آليه Sonnenallee، على الرغم من حيويته، من ناحية التشبيك المروري في مدينة تؤوي قرابة أربعة ملايين إنسان، وتعدّ في كثير من الأحيان؛ "قلب أوروبا النابض"؛ لم يكن بمثل هذا الضجيج والازدحام، قبيل بضعة أعوام. وإن اشتهر ببعض المحال المتفرّقة، التي تبيع بضاعة ومأكولات شرق أوسطية. الآن، ومع لجوء ثمانمائة ألف سوري، صارت أسياخ الشاورما في كل مكان. وأسماء الدكاكين بأنوراها الحمراء والزرقاء الفاقعة، تضيء، وبالخط العربي العريض، الأمسية والنهارات الشتوية المُعتمة.
اقــرأ أيضاً
إحجام الكثير من الألمان من جهة، عن تأجير الوافدين الجدد في أماكن مُتفرقة من العاصمة، ومن جهة أخرى، عامل الألفة ورابط اللغة والثقافة، جعل السوريين يقصدون الشارع جماعةً وعيونهم على محاله المُغلقة، بحكم ميلهم التاريخي نحو التجارة. إضافةً إلى جالية لبنانية ومغاربية، تعيش في الحي منذ عقود، ساهمت في تسهيل استثمار العقارات الممتدة على طول الشارع، وإن لم يخل الأمر من أخبار، عن إتاوات حِمائية وشراكات تعسّفية، فرضها المهاجرون القدامى على الجدد، قد تؤجج النزاع على الزعامة والنفوذ في الحي، بين الأخوة والأشقاء العرب.
فيما تفرّق السوريون، من متعلمين وخرّيجي مدارس وجامعات، وهم كُثر بشهادة المُضيف، على مختلف المقاطعات الألمانية، التحاقاً بالكلّيات والمدارس المهنية، بغية تطويع مؤهلاتهم ومعارفهم، لتتماشى مع سوق العمل الجديدة، لم تجد الفئة غير المتعلمة من مندوحة، سوى التكتّل في برلين، مستفيدة من سابقة حرّية التنقل المتاحة للاجئ، فور تسوية وضعه القانوني. هنا، وفي "شارع العرب" تحديداً، يمكن لهؤلاء العمل في المهن المتفرقة، من دون إتقان اللغة الألمانية، أو الخضوع لأصول التأهيل والممارسة. أدى هذا، إلى تدنّي المستوى الاجتماعي، حتى على النطاق السوري الخاص، ناهيك عن المديني العام.
من زاوية أعرض، يمكن النظر إلى ظاهرة "الزونن آليه"، على أنها الغيتو Ghetto العصري في مجتمع ما بعد الحداثة. نموذجٌ، تجدر مقاربته انطلاقاً من خاصيّتين رئيسيّتين؛ الأولى هي "المرئية" visibility ، والثانية، القدرة على إعادة إنتاج البيئة المحليّة Authenticity، ليس فقط، من جهة تصميم الفضاء وتوفير المنتجات والخدمات، التي تبدأ من الحلاقة وتنتهي بالحجامة، وإنما أيضاً، تبادل المنتجات الثقافية على الحواسيب وعبر المحمول، بفضل تقانة المعلومات والاتصالية Connectivity.
كان نابليون بونابارت أول من أنهى النموذج القروسطي، الماقبل حداثي للغيتو، أي التجمع السكني المغلق، أحادي العرق أو الدين، أو كليهما. حين أمر بفتح أحياء اليهود في أوروبا، مستهل القرن التاسع عشر، بغية إنهاء التمييز ضدهم، وصهرهم في بوتقة الهوية الوطنية، المستلهمة من فكر التنوير وقيم الثورة الفرنسية، من عدالة ومساواة، تكفل حرية الرأي والمعتقد؛ نتجت، عن ذلك، حال من الانكشاف الاجتماعي.
"الآخر"، الذي كان غائباً، صار الآن مرئياً، حاضراً إلى العيان. وعليه، لم ينته فصلٌ من معاداة السامية، حتى يبدأ فصل آخر جديد، هذه المرّة، على هيئة أيديولوجيا عنصرية، إفنائية، تشرّبت نظرية الاصطفاء الطبيعي، ونقاء النسل، من معارف القرن التاسع العشر، أوّلتها عرقيّاً، لتُصبح أفظع وأعظم شرّاً.
عرف العالم العربي، ظاهرة الغيتو، حيث تجمّعت الأقليّات في أحياء المدن والبلدات، كلّ بحسب الملّة والطائفة والإثنيّة، كان لها في القديم بوّابات عليها سَدنة. حديثاً، وفي بلاد الشام، تشكلت أحياء الأرمن الفارين من مذابح الأناضول، والشركس والأكراد، وصولاً إلى مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين التي اقتضتها الاحتلالات الإسرائيلية المتعاقبة، حيث فُرضت على السكان، رقابة سياسية وأمنية صارمة، وفي أحيانٍ كثيرة، قيود على العمل والحركة، البينية والخارجية.
بقاعٌ أخرى من العالم ما زالت تُعاني من "الغَيتنة" Ghettoisation. نمت فيها، مناطق معزولة عرقياً، كالولايات المتّحدة والبرازيل. في الأولى، فُرض على السود التركّز في أحياء مهمّشة، باتت مرتعاً للبطالة والجريمة. استطاعت حركة التحرر الأفرو-أميركية في الخمسينيات، إنهاء الفصل العنصري السياسي، لكن دون العمراني. بل إن ازدياد الهوّة بين الغنى والفقر على مدى العقود الخمسة الماضية، بفعل اقتصاد السوق، وتسليع اليد العاملة، زاد العزل عزلاً والاقصاء إقصاءً.
اقــرأ أيضاً
في ألمانيا، كلٌ من العبء الأخلاقي الناجم عن فظائع النازية، والاعتراف بالتقصير في إدماج العمالة الوافدة من تركيا بعد الحرب العالمية الثانية، حتّم على الدولة مكافحة مظاهر الغَيتنة، حتى بصيغتها السائلة العابرة للمكان، أو ما بات يُعرف بـ "المجتمعات الموازية". إلا أن الجهد، اصطدم بواقع على الأرض، آت من انكماش محلّي إزاء المهاجرين، يخلقه الخوف، وتحقنه وسائل الإعلام، إما بتنميطات عنصرية مُسبقة، أو بتعميم حوادث متفرّقة، تتصدر عناوين الصحافة والتلفزيون، لتعود المرئية، من جديد، في أجواء متلبدة، حبلى بالتغيير.
بضع مئات من ذوي البشرة السمراء، ترقبهم إما عيون قاطني الطوابق العلوية المُطلّة على الشارع، أو المارّين بفوضى سير غير عادية، وضوضاء تذكّر بدمشق والقاهرة، يغدو بمثابة غزو، يستدعي في المخيّلة الجمعية، صوراً ماضويّة، عن حصار جديد لفيينا، ليس بجحافل العثمانيين، كما في القرن السادس عشر، وإنما لبرلين، بجموع التعساء من اللاجئين والمهاجرين، الذين لم يكونوا ليتركوا دفء الشمس وأرض الدار، لولا ويل البؤس وهول الدمار.
تُثير مرئية شارع العرب، وأصليته، مخاوف الرأي العام الألماني، في مزاج تشاؤمي عكِر، يسوده القلق من الشيخوخة والضمور السكاني، والخشية من قادمٍ بطفرة تكنولوجية، تطيح بوسائل الإنتاج، ومعها اليقينيات السائدة، سيجد دُعاة الهويّاتية السياسية المتطرفون في "الزونن آليه"، ذريعة لتجييش الرأي العام، قد تؤدي إلى صدام، على غِرار أحداث الكرونولا Cronulla في سيدني الأسترالية عام 2005. لعل أنجع وسائل الوقاية منه تكون بتشكيل أطر حوار أهلي بين الوافد والمُضيف، بروحية مُنفتحة، مُتحررة من الأحكام المسبقة عند كل طرف إزاء الطرف الآخر.
من جهة أخرى، تبدو كل من وسائل التواصل الحديثة، وطرق التجارة الحرة، العابرة لحدود وسيادة الدول، محرّكات تاريخية، تسهم في إبقاء المهاجر متّصلاً ببلد المنشأ. فتراه، يُعيد نصب البلد القديم، على أرض البلد الجديد، بعيداً عن التوافق Conscent المسيّر للفضاء العام، من حيث هو مُلك مشترك للأفراد، تحكمه نُظم وقوانين ناعمة وغير مرئية، تبدو غريبة؛ إذ مثّل في الأمس القريب، كل ما حدّ عتبة البيت، مجالاً قمعياً لعنف ورقابة السلطة، تجدر مهابته، لا احترامه.
في تداخل الوجود في المهجر، بالوجود على الإنترنت، تُمسي الغربة غُربتين؛ واحدة عن أرض الوطن في المنفى، وأخرى عن المنفى في صورة الوطن. في شارع العرب في برلين، كثيراً ما تنتهك قوانين السير، يُقوّض الطابور في المصرف والمتجر، ويندر الاهتمام بالنظافة والالتزام بالحد من التلوث السمعي والبصري. كما تُعرض رؤوس الخرفان المقطوعة والمسلوقة، خلف واجهات المطاعم، في استفزاز غير محسوب، لمشاعر مجتمع، باتت تنشط فيه جماعات حقوق الحيوان قبل الإنسان. وبطبيعة الحال، تغيب النسوة، عن مرافق العمل والخدمة.
تقتضي المسؤولية بأن يعي المرء، أن صون الفضاء العام، ليس امتيازاً ثقافيّاً للغربي على العربي، ولا هويّة أوروبيّة خالصة، وإنما سيرورة تطور حضاري، في مجتمعات حديثة، عبرت مراحل تاريخيّة عدّة، واجتازت ثورات سياسية ومعرفية وصناعية، أزهقت في سبيلها نفوس الملايين، إلى أن تُوّج نُضالها في القرن العشرين، بإرساء مبدأ المواطنة، والمواطنة قيمة جامعة، عابرة للهوية والدين، وشرط أساس في حفظ السلم والأمن الاجتماعيين، كما أنها محرّك مُستدام للتنمية، في تلاقٍ عصري مع قول النبي محمد: كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيّته.
شارع الزونن آليه Sonnenallee، على الرغم من حيويته، من ناحية التشبيك المروري في مدينة تؤوي قرابة أربعة ملايين إنسان، وتعدّ في كثير من الأحيان؛ "قلب أوروبا النابض"؛ لم يكن بمثل هذا الضجيج والازدحام، قبيل بضعة أعوام. وإن اشتهر ببعض المحال المتفرّقة، التي تبيع بضاعة ومأكولات شرق أوسطية. الآن، ومع لجوء ثمانمائة ألف سوري، صارت أسياخ الشاورما في كل مكان. وأسماء الدكاكين بأنوراها الحمراء والزرقاء الفاقعة، تضيء، وبالخط العربي العريض، الأمسية والنهارات الشتوية المُعتمة.
إحجام الكثير من الألمان من جهة، عن تأجير الوافدين الجدد في أماكن مُتفرقة من العاصمة، ومن جهة أخرى، عامل الألفة ورابط اللغة والثقافة، جعل السوريين يقصدون الشارع جماعةً وعيونهم على محاله المُغلقة، بحكم ميلهم التاريخي نحو التجارة. إضافةً إلى جالية لبنانية ومغاربية، تعيش في الحي منذ عقود، ساهمت في تسهيل استثمار العقارات الممتدة على طول الشارع، وإن لم يخل الأمر من أخبار، عن إتاوات حِمائية وشراكات تعسّفية، فرضها المهاجرون القدامى على الجدد، قد تؤجج النزاع على الزعامة والنفوذ في الحي، بين الأخوة والأشقاء العرب.
فيما تفرّق السوريون، من متعلمين وخرّيجي مدارس وجامعات، وهم كُثر بشهادة المُضيف، على مختلف المقاطعات الألمانية، التحاقاً بالكلّيات والمدارس المهنية، بغية تطويع مؤهلاتهم ومعارفهم، لتتماشى مع سوق العمل الجديدة، لم تجد الفئة غير المتعلمة من مندوحة، سوى التكتّل في برلين، مستفيدة من سابقة حرّية التنقل المتاحة للاجئ، فور تسوية وضعه القانوني. هنا، وفي "شارع العرب" تحديداً، يمكن لهؤلاء العمل في المهن المتفرقة، من دون إتقان اللغة الألمانية، أو الخضوع لأصول التأهيل والممارسة. أدى هذا، إلى تدنّي المستوى الاجتماعي، حتى على النطاق السوري الخاص، ناهيك عن المديني العام.
من زاوية أعرض، يمكن النظر إلى ظاهرة "الزونن آليه"، على أنها الغيتو Ghetto العصري في مجتمع ما بعد الحداثة. نموذجٌ، تجدر مقاربته انطلاقاً من خاصيّتين رئيسيّتين؛ الأولى هي "المرئية" visibility ، والثانية، القدرة على إعادة إنتاج البيئة المحليّة Authenticity، ليس فقط، من جهة تصميم الفضاء وتوفير المنتجات والخدمات، التي تبدأ من الحلاقة وتنتهي بالحجامة، وإنما أيضاً، تبادل المنتجات الثقافية على الحواسيب وعبر المحمول، بفضل تقانة المعلومات والاتصالية Connectivity.
كان نابليون بونابارت أول من أنهى النموذج القروسطي، الماقبل حداثي للغيتو، أي التجمع السكني المغلق، أحادي العرق أو الدين، أو كليهما. حين أمر بفتح أحياء اليهود في أوروبا، مستهل القرن التاسع عشر، بغية إنهاء التمييز ضدهم، وصهرهم في بوتقة الهوية الوطنية، المستلهمة من فكر التنوير وقيم الثورة الفرنسية، من عدالة ومساواة، تكفل حرية الرأي والمعتقد؛ نتجت، عن ذلك، حال من الانكشاف الاجتماعي.
"الآخر"، الذي كان غائباً، صار الآن مرئياً، حاضراً إلى العيان. وعليه، لم ينته فصلٌ من معاداة السامية، حتى يبدأ فصل آخر جديد، هذه المرّة، على هيئة أيديولوجيا عنصرية، إفنائية، تشرّبت نظرية الاصطفاء الطبيعي، ونقاء النسل، من معارف القرن التاسع العشر، أوّلتها عرقيّاً، لتُصبح أفظع وأعظم شرّاً.
عرف العالم العربي، ظاهرة الغيتو، حيث تجمّعت الأقليّات في أحياء المدن والبلدات، كلّ بحسب الملّة والطائفة والإثنيّة، كان لها في القديم بوّابات عليها سَدنة. حديثاً، وفي بلاد الشام، تشكلت أحياء الأرمن الفارين من مذابح الأناضول، والشركس والأكراد، وصولاً إلى مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين التي اقتضتها الاحتلالات الإسرائيلية المتعاقبة، حيث فُرضت على السكان، رقابة سياسية وأمنية صارمة، وفي أحيانٍ كثيرة، قيود على العمل والحركة، البينية والخارجية.
بقاعٌ أخرى من العالم ما زالت تُعاني من "الغَيتنة" Ghettoisation. نمت فيها، مناطق معزولة عرقياً، كالولايات المتّحدة والبرازيل. في الأولى، فُرض على السود التركّز في أحياء مهمّشة، باتت مرتعاً للبطالة والجريمة. استطاعت حركة التحرر الأفرو-أميركية في الخمسينيات، إنهاء الفصل العنصري السياسي، لكن دون العمراني. بل إن ازدياد الهوّة بين الغنى والفقر على مدى العقود الخمسة الماضية، بفعل اقتصاد السوق، وتسليع اليد العاملة، زاد العزل عزلاً والاقصاء إقصاءً.
في ألمانيا، كلٌ من العبء الأخلاقي الناجم عن فظائع النازية، والاعتراف بالتقصير في إدماج العمالة الوافدة من تركيا بعد الحرب العالمية الثانية، حتّم على الدولة مكافحة مظاهر الغَيتنة، حتى بصيغتها السائلة العابرة للمكان، أو ما بات يُعرف بـ "المجتمعات الموازية". إلا أن الجهد، اصطدم بواقع على الأرض، آت من انكماش محلّي إزاء المهاجرين، يخلقه الخوف، وتحقنه وسائل الإعلام، إما بتنميطات عنصرية مُسبقة، أو بتعميم حوادث متفرّقة، تتصدر عناوين الصحافة والتلفزيون، لتعود المرئية، من جديد، في أجواء متلبدة، حبلى بالتغيير.
بضع مئات من ذوي البشرة السمراء، ترقبهم إما عيون قاطني الطوابق العلوية المُطلّة على الشارع، أو المارّين بفوضى سير غير عادية، وضوضاء تذكّر بدمشق والقاهرة، يغدو بمثابة غزو، يستدعي في المخيّلة الجمعية، صوراً ماضويّة، عن حصار جديد لفيينا، ليس بجحافل العثمانيين، كما في القرن السادس عشر، وإنما لبرلين، بجموع التعساء من اللاجئين والمهاجرين، الذين لم يكونوا ليتركوا دفء الشمس وأرض الدار، لولا ويل البؤس وهول الدمار.
تُثير مرئية شارع العرب، وأصليته، مخاوف الرأي العام الألماني، في مزاج تشاؤمي عكِر، يسوده القلق من الشيخوخة والضمور السكاني، والخشية من قادمٍ بطفرة تكنولوجية، تطيح بوسائل الإنتاج، ومعها اليقينيات السائدة، سيجد دُعاة الهويّاتية السياسية المتطرفون في "الزونن آليه"، ذريعة لتجييش الرأي العام، قد تؤدي إلى صدام، على غِرار أحداث الكرونولا Cronulla في سيدني الأسترالية عام 2005. لعل أنجع وسائل الوقاية منه تكون بتشكيل أطر حوار أهلي بين الوافد والمُضيف، بروحية مُنفتحة، مُتحررة من الأحكام المسبقة عند كل طرف إزاء الطرف الآخر.
من جهة أخرى، تبدو كل من وسائل التواصل الحديثة، وطرق التجارة الحرة، العابرة لحدود وسيادة الدول، محرّكات تاريخية، تسهم في إبقاء المهاجر متّصلاً ببلد المنشأ. فتراه، يُعيد نصب البلد القديم، على أرض البلد الجديد، بعيداً عن التوافق Conscent المسيّر للفضاء العام، من حيث هو مُلك مشترك للأفراد، تحكمه نُظم وقوانين ناعمة وغير مرئية، تبدو غريبة؛ إذ مثّل في الأمس القريب، كل ما حدّ عتبة البيت، مجالاً قمعياً لعنف ورقابة السلطة، تجدر مهابته، لا احترامه.
في تداخل الوجود في المهجر، بالوجود على الإنترنت، تُمسي الغربة غُربتين؛ واحدة عن أرض الوطن في المنفى، وأخرى عن المنفى في صورة الوطن. في شارع العرب في برلين، كثيراً ما تنتهك قوانين السير، يُقوّض الطابور في المصرف والمتجر، ويندر الاهتمام بالنظافة والالتزام بالحد من التلوث السمعي والبصري. كما تُعرض رؤوس الخرفان المقطوعة والمسلوقة، خلف واجهات المطاعم، في استفزاز غير محسوب، لمشاعر مجتمع، باتت تنشط فيه جماعات حقوق الحيوان قبل الإنسان. وبطبيعة الحال، تغيب النسوة، عن مرافق العمل والخدمة.
تقتضي المسؤولية بأن يعي المرء، أن صون الفضاء العام، ليس امتيازاً ثقافيّاً للغربي على العربي، ولا هويّة أوروبيّة خالصة، وإنما سيرورة تطور حضاري، في مجتمعات حديثة، عبرت مراحل تاريخيّة عدّة، واجتازت ثورات سياسية ومعرفية وصناعية، أزهقت في سبيلها نفوس الملايين، إلى أن تُوّج نُضالها في القرن العشرين، بإرساء مبدأ المواطنة، والمواطنة قيمة جامعة، عابرة للهوية والدين، وشرط أساس في حفظ السلم والأمن الاجتماعيين، كما أنها محرّك مُستدام للتنمية، في تلاقٍ عصري مع قول النبي محمد: كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيّته.