سوق "سان أوستاش": كنوز بين بقايا المنازل المهجورة

21 سبتمبر 2018
تحف معروضة في السوق (العربي الجديد)
+ الخط -
قريباً من سكني في إسطنبول، وعلى مدار ثلاث سنوات، كان يقام بازار الأحد للأشياء المستعملة، أو لأقل: إنها الأشياء المنتقاة، في أغلبها، من القمامة، ومن بقايا المنازل المهجورة؛ ليس بالضرورة بسبب الحروب. كان كل يوم أحد، عندما أزور هذا البازار في شارع ”دولابدير“، في وطى الشيشلي، أتذكر مونتريال، وتحديداً سوق ”سان أوستاش“، وسوق النسوان في حمص، وسوق الجمعة في حلب، وسوق الخميس في حماه. وهذه كلها تذكرني بالكنوز الضائعة ”لعلي بابا“ ومغارته العجيبة. ولكن كان الأكثر حضوراً ووضوحاً في الذاكرة هو سوق ”سان أوستاش“، والترجمة الحرفية للاسم هي ”سوق القمل“، إلا أن تداوله جرى بمعنى ”سوق البراغيث“، وهو موجود بنفس الاسم في باريس وبيروت، وربما في مدن أخرى من العالم.
يقع سوق ”سان أوستاش“، شمال مونتريال بحوالى ٣٠ كلم، وهو الآن جزء من مدينة سان أوستاش، القريبة من مزارع التفاح، وغابات شجر ”الإيرابل“ التي يؤخذ نسغها ليُحضر منه مشروب حلو، أطيب من العسل، بحسب بعض الدراسات.
قد تكون فكرة إنشاء سوق مواز للأسواق النظامية في مونتريال هي السبب في وجود سوق ”سان أوستاش“ لتحقيق مجموعة أهداف دفعة واحدة؛ فهو يلبي حاجات سكان القرى المحيطة به من حيث حصولهم على حاجاتهم الزراعية والمنزلية، ويوفر لهم مكاناً لتسويق بعض إنتاجهم الزراعي مباشرة، كما أنه يبيع معروضاته دون ضريبة، مما يوهم الزبائن بأن سلعه أرخص من التي في أسواق مونتريال.
ما ينطبق على سوق ”سان أوستاش“ ينطبق بنسب مختلفة على كل بازارات ”البراغيث“ في المقاطعة، ولكن الحديث سيكون عن سان أوستاش لأنه الأكبر والأشهر بالنسبة إلى سكان مونتريال.

المعروضات
تتوزع المعروضات في الصيف على قسمين؛ مستعمل وجديد، وهي مفرودة على مساحة كبيرة داخل البناء المغلق، وهي حصرا للجديد والذي يستمر طوال العام (ثلاثة أيام في الأسبوع؛ الجمعة والسبت والأحد)، بينما المساحة الخارجية الكبيرة فموزعة إلى ثلاثة استعمالات؛ الجديد والمستعمل، والثالث هو المكان المخصص لركن السيارات، ومساحته هي الأكبر.
في قسم الجديد، يستطيع الإنسان أن يجد كل ما هو بحاجة إليه من ألبسة وأغذية ومفروشات وأدوات كهربائية وإلكترونيات ومجوهرات، ومطاعم، وأحذية، تقريبا كل شيء. وفيه الثياب من كل الماركات المشهورة، وكذلك العطور والمحافظ النسائية. التقيت صبية عشرينية من أصل فلسطيني، أعرف والدها، سلمت عليها وسألتها إن كانت قد وجدت شيئا خاصا للشراء، فقالت: نعم، انظر إلى هذا الجزدان النسائي الصغير، اشتريته بخمسين دولارا فقط. قلت لها ولكن هذا سعر كبير. قالت: انظر إلى ”الماركة“، وفتحت هاتفها على موقع للتسوق الإلكتروني، وأرتني سعره الأصلي ٤٥٠٠ دولار. قالت: هل ترى؟؟

المستعمل
في قسم المستعمل يدخل الإنسان إلى العالم كله دون مبالغة، وينتقل ببساطة مدهشة وسهولة بين عوالم سحرية لا نستطيع أن نعرف فيها حدود الخرافة والسحر عن الواقع الذي أصبح ماضيا. ونلمس ”بوذا“ المقيم على إحدى الطاولات، ونسافر عبر الزمن إلى ”كوفوشيوس“، وعصر العبودية، ونرتد إلى عصر البخار مع مجسم لقطار بريطاني يعمل على الفحم الحجري، ونستعيد قصة حب على سفينة ستغرق بعد قليل قرب الحدود الكندية (تيتانيك)، محفورة على قرص صلب ثمنه دولار واحد بعد أن كان ثمنه عشرين دولارا في يوم ما ليس بعيدا. نلمس ماكينة خياطة ماركة سنجر، كانت تعادل ثروة في يوم ما قبل قرن من الزمن، والآن يتم شراؤها كي يكون حديدها حمالة لمزهرية. ترى طاولة زهر شامية وكوفية فلسطينية وتمثالا فرعونيا، ومجسما لبرج ايفيل وآخر لبرج ساعة بيغ بن، وتتابع العيون ”الزوغان“ بين الطاولات المنتشرة في صفوف كصفوف العسكر غير المدربين جيدا، وتتوقف من جديد عند وعاء زجاجي ضخم ”مقشش“ يتسع لحولي أربعين لترا من النبيذ أو الزيت، وبقربه ”مخباط“ خشبي، كان يستعمل في يوم ما لخبط الثياب عند غسلها على ضفاف الأنهر الصغيرة في قرانا.. تصل إلى نهاية الصف، وتنتقل إلى الصف التالي، ولكن ”زوغان“ العينين لا يتوقف. إنه عالم الأشياء الفائضة عن الحاجة، التي استغنى عنها الناس، ليعود بعض البشر لالتقاط ما تبقى منها، وإعادة إحيائها بعد أن أصبحت قطعا ”نادرة“.


فرش البيوت
في السنة الأولى لوصولي إلى مونتريال زرت بيت معلمتي الشابة الجميلة، ووجدت نفسي في متحف من المفروشات القديمة واللوحات والصمديات. سألت المعلمة بلغتي المكسرة، كيف حصلت على هذا الأثاث المدهش، فقالت: إنها لا تترك فرصة تفوتها لزيارة كل (فانت دو كراج)، يعني بيعاً من كراجات البيوت، في نهاية الأسبوع إلا وتزوها. وكل أغراض بيتها تم جمعها بهذه الطريقة.
أخيرا، لا بد من الإشارة إلى أن الأسعار ليست رخيصة دائما، والبضائع ليست جيدة وسليمة أحيانا، ولكن الناس تذهب بالألوف كل نهاية أسبوع إلى هذه البازارات للمشي وتمضية الوقت والمتعة وربما العثور على قطعة نادرة أو ربما برغي نادر وقع من إحدى صمدياتنا أو آلاتنا القديمة، ومن الصعب العثور عليه إلا صدفة أو في البازارات التي تبيع ”الزبالة“ التي يعيد الناس اكتشاف أهميتها، وإذا مل الزائر من كل ما سبق ذكره فأمامه بالإضافة إلى المطاعم وصالات الرياضة، خمس شاشات عرض سينمائية عملاقة، يرتادها الناس ليلاً في سياراتهم لمشاهدة أفلام حديثة أو لفعل أشياء أخرى.…
المساهمون