إعتدتُ اللقاء بهما يوميّاً مرّات عدّة، الأوّل، يقف عند الإشارة الأولى، لا يقترب من السيارات، بل ينتظر وصولها إليه -علّ الكرامة والخجل أعزّ ما لديه -ليبيع صاحبها "علكة حارقة" ترتفع درجة حرارتها مع ارتفاع حرارة الشمس.
أقترب منه وأرمي السلام، وأضع بيده المال، يبتسم ويتمتم بصوت منخفض: "الله يحميكي ويسهّل أمورك"، وأتابع سيري. يوما بعد يوما، صارت ابتسامته تطلّ قبل جسمه، وما إن يرى السيارة تقترب حتّى يبادر بخطوات قصيرة تشبه حركة الدولاب المنتظر عند الإشارة.
في ذلك اليوم اقترب بشكل عفوي وبادرني: "هل تريدين شراء علكة يا سيّدتي؟"، فقلتُ: "هل نسيْت أنّني أشتريها كلّ يوم؟"، فردّ: "أبداً، لكنّني لم أرَ ابتسامتك اليوم، فخفت أن تكوني نسيتني". فابتسمتُ، ليباديني مجدّدا: "أتمنّى نسيان داعش والنظام، لتبقي أنتِ والثورة في ذاكرتي".
الشحّاذ الآخر يقف كلّ يوم عند الإشارة الثانية، ينشد دائماً أغانٍ وطنيّة بصوت منخفض، ربّما يخاف أن يسمع العابرون كلماتها. يتّكئ إلى عامود الإشارة، لا يقترب من أيّ سيّارة، بل يختار زبائنه بشكر غريب. يبيع العلكة ويعود ليجلس على حافة الرصيف.
تعوّدت أيضًا رؤيته كل يوم، يدنو منّي، فأساعده وأرحل. في ذلك اليوم كان يربط يده بوشاح أبيض، ويبدو على وجهه التّعب والمرض. وما إن اقترب منّي سألته عن الوشاح فأجاب: "وقعتُ". فناولته بعض المال فدعا لي بالتوفيق. أجبته: "الله يحميك". لكنّه أجاب: "انشالله النظام بْيِحمينا كلّنا من داعش واللي سمّوها ثورة".
على تلك الإشارة عرفتُ أنّ الهروب من زحمة السيّر ممكن، لكنّ الأصعب هو الهروب من السياسة ومن طيف الثورة السورية ومن زحمة الخلافات والاختلافات.