المكان غير جدير بالبشر، فهو ضيق ومحاط بشوارع عديدة، ونفايات. الضجيج الدائم، ليلاً ونهاراً، لا يطاق. والمساحة الصغيرة التي لا تتسع لأكثر من ثلاث خيم، تستقبل عشرات الأسر من اللاجئين السوريين بنسائها وأطفالها.
يقع هذا المكان في العاصمة الفرنسية باريس. فيه لن يأمن أهله البرد الآتي سريعاً. فيما تتحدث بعض النساء عن اشتباكات عنيفة تحدث بين اللاجئين ما يدفع الشرطة الفرنسية للتدخل. والاشتباكات، يقول اللاجئ أحمد إنّها "تدور حول من ينام في هذه الخيمة أو تلك، مع العلم أنّ الأسر يصل عددها إلى نحو خمسين".
معظم السوريين هناك يئسوا من بطء الإجراءات الفرنسية فغادروا إلى بلجيكا وألمانيا، والقليل فقط إلى منطقة كاليه القريبة من الحدود البريطانية. كلّ السوريين في باريس يعرفون المكان المسمى "بورت دو سانت وان". تقول زينب إنّ سفينة تأتي من مدينة مليلية المغربية (تحت السيادة الإسبانية) كل يوم ثلاثاء، وتحمل بشكل دائم لاجئين سوريين من ضمن آخرين.
يشكل المكان ممراً ضرورياً يستريحون فيه قبل مواصلة السفر إلى بلجيكا وألمانيا، حيث ظروف الاستقبال أفضل بكثير من فرنسا.
يقول يوسف الذي وصل قبل أسبوعين عن طريق مليلية: "لم نرَ أحداً من السلطات الفرنسية بعد مأساة الطفل الغريق. لكنْ إخواننا المغاربة والجزائريون تأثروا، وبدأنا نرى الكثير منهم
يزوروننا في هذا المكان ويقدمون لنا مساعدات. وأصبح حضورهم أكثر من السابق".
جاء يوسف مع زوجته وأطفالهما الثلاثة إلى المكان الذي يقول عنه: "علمت بوجود مكان يمكن فيه للسوريين أن يأكلوا ويشربوا وللأطفال أن يستريحوا.. لكنّ أبنائي لا يريدون الأكل والشرب المتوفر، بل مكاناً لائقاً ينامون فيه ويغتسلون. نريد مالاً يسمح لنا باستئجار غرف في فنادق، فالبرد وصل، ومعه الأمطار".
أما أحمد الآتي عبر مليلية أيضاً، فيقول إنّه لن يسجل اسمه لدى السلطات الفرنسية "لأنّ الإجراءات طويلة ومضجرة، ما بين سنة وسنة ونصف، وأنا لا أستطيع البقاء طوال هذه المدة في العراء، وهو حال العديد من إخواننا هنا. وأفضّل التوجه إلى ألمانيا، لأنّ ظروف الاستقبال هناك أفضل". ويضيف: "ها أنت ترى، أطفالنا ينامون في العراء، فهل هذه هي حقوق اللاجئين؟ يقولون عن فرنسا إنها ترحب باللاجئين، ونحن لا نرى شيئا من هذا".
الكثير من السوريين غادروا بالفعل إلى بلجيكا وألمانيا. ويبدو أن السلطات الفرنسية تتعمد إهمال هؤلاء كي يغادروا من تلقاء أنفسهم إلى بلدان أخرى. وحتى ولو لم يملك اللاجئ أحداً في ألمانيا فإنّه يفضلها على فرنسا. وهو حال أحمد المنحدر من حمص؛ والذي يقول: "ليس لديّ معارف في ألمانيا، لكن توجد هناك جالية سورية كبيرة بسبب سهولة الإجراءات. أما هنا، فالإجراءات بطيئة جدا وتستغرق سنة فما فوق".
عائلة سورية صغيرة، وصلت إلى المكان، قبل شهر فقط، قدمت طلب لجوء لدى السلطات الفرنسية، فَرُفض، لأنّ جوازات أفرادها تحمل بصمة أوروبية، فقد ختمت السلطات الإسبانية جوازاتهم، وهو ما يعني أنه يتوجب عليهم البقاء في إسبانيا، بحسب الاتفاق الأوروبي. لكنّهم تحمسوا عندما علموا أنّ المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قررت "تجاوز هذا العائق" والسماح لمن يحمل جوازه ختماً بالوصول إلى ألمانيا.
من جهتها، وصلت مها، وهي من إدلب، إلى المكان قبل 10 أيام، عن طريق مليلية أيضاً. تقول: "لا يعرف شعورنا إلاّ ربّ العالمين. لا تبدل في تعامل فرنسا معنا. هو مجرد كلام.. لا يأتي لزيارتنا سوى أفراد مغاربة وجزائريين وتونسيين، ولا حضور لأي جمعيات". تتابع: "يوجد هنا أشخاص وصلوا قبل 4 شهور وآخرون قبل شهر وغيرهم قبل عشرة أيام، وفي الطريق أيضاً من ننتظر وصولهم. عائلتي كلها في مليلية، إخوتي وأخواتي".
تقول مها إنّها تنتظر بقية العائلة لتتجه معهم بعدها إلى بلجيكا، وتعلق: "بلجيكا تُسهّل الأمر أكثر من فرنسا، وهي مثل ألمانيا. ابنتي قدّمت طلب لجوء هنا وقُبِل طلبها بعد سنة، لكن سُحب منها جواز سفرها السوري. نحن لا نريد أن نتخلى عن جوازاتنا السورية، وبلجيكا لا تُصادرها. أرسلت أبنائي قبل أن آتي بنفسي.. في بلجيكا ينتظر السوري شهرين فقط ثم يحصل على الإقامة من دون سحب جوازه. لديّ أقارب هناك تمت تسوية أوضاعهم في أربعين يوماً. ومنحوا سكناً لائقاً. كما أنّ كلّ عائلة تتلقى 1200 يورو شهرياً. أما ابنتي هنا، في فرنسا، فلا تتلقى سوى 350 يورو شهرياً ومن دون سكن".
اقرأ أيضاً: لاجئون سوريّون ينتظرون التفاتة في عراء باريس
تضيف مها: "السلطات الفرنسية لا تقدم مساعدات مالية لأيّ كان قبل أن يحصل على أوراق، ولا تمنح أي سكن حتى بعد الحصول على الأوراق. ابنتي تقيم في الفندق، وتدفع من جيبها. وقد قررت أن تسافر معنا إلى بلجيكا وتغير إقامتها". وتتابع: "فرنسا شعبياً بلد مضياف، ونحن تلمسنا مبادرات رائعة من فرنسيين، قبل مأساة الطفل عيلان عبد الله، وخصوصاً بعدها". وتعطي مثالاً: "قبل أيام اقتربت منا سيارة شرطة فشعرنا بالخوف، لكنّ العناصر قدموا لنا الطعام. كذلك، جاء رجل فرنسي وبيده حذاء نسائي يبحث عن سيدة سورية مقاس قدميها مناسب له. وجاءت امرأة فرنسية بملابس للرضّع وهي تبكي".
وبينما تسهب مها في الحديث عن المبادرات الفردية تصل سيدتان جزائريتان. تقول مها عنهما: "جاءتا بعد سماعهما مأساة الطفل الغريق، وأحضرتا مساعدات وأطعمة، وعرضتا حمامهما العائلي على امرأتين من مجموعتنا، وقررتا كل يوم أن تفعلا الشيء ذاته مع امرأتين.. لا مراحيض في المكان ولا ماء".
مها، في الأربعين من عمرها، تبدو امرأة استثنائية. هرّبت ابنها الجندي، الذي كان قد تزوج للتوّ، من الجيش النظامي، وغيّرت اسمها وغادرت مع كامل العائلة إلى تركيا، ثم الجزائر لتصبح جدة هناك. هي لا تريد أوراق إقامة مقابل سحب جوازها السوري، بل تريد عودة سريعة إلى بلدها والمشاركة في انتخابات ديمقراطية تصنع سورية الغد، وتعلق على ذلك بدعاء واحد: "إن شاء الله.. إن شاء الله".
اقرأ أيضاً: موسم الهجرة.. سوريّون يعبرون تركيا إلى أوروبا