27 سبتمبر 2018
سورية والثورة بعد سبع سنوات
مرّت في 15 مارس/ آذار الجاري سبع سنوات على بدء الثورة في سورية، شهد العالم خلال سنواتها الأربع الأخيرة أبشع المجازر، ووحشيةً لا توصف، هي نقيض كل ذلك الصفاء والنقاء والأمل الذي تعمم مع بدء الثورات في تونس ومصر. لقد أفضى انفجار الثورات في البلدان العربية إلى انتشار الأمل بتغيير العالم في كل بقاع الأرض، وأصبح ميدان التحرير المثال/ الرمز، وتجسيد هذا الأمل. ظهر لكأن شعوب العالم تريد التغيير، لكنها تعيش حالة يأسٍ، كسرها هذا الانفجار الكبير في البلدان العربية، لهذا باتت الثورة ممكنة، والأمل في التغيير ليس ممكناً فحسب، بل مؤكد كذلك.
لماذا هذه الوحشية؟
أمل ثوري عمّ العالم، ربما كان لا بد من أن يتفتت. ومن هذا المنطلق، لا بدّ من أن نفهم كل ما جرى في سورية، ونعرف سبب الوحشية التي مارسها النظام، وروسيا وإيران تحت أنظار العالم، الذي لم يفعل سوى التنديد والشجب شكلاً، وغض النظر عما يجري فعلاً. لم يكن الموقف العالمي ناتجا عن عجز، ولا نتيجة لا مبالاة، على العكس كان فرحاً بما يجري، ولقد اشتغلت دول إمبريالية على "النكز" و"اللعب" لكي تزداد الوحشية.
المؤسف أنه جرى النظر إلى الثورات في البلدان العربية منفصلا كل منها عن الأخرى، وجرت معالجة وضع كل منها بشكل مختلف عن الأخرى، وحتى المواقف اختلفت من ثورة إلى أخرى. بينما نظر كل العالم الإمبريالي إليها سياقا واحدا، وانفجارا موحدا. ولهذا عمل على التصدي لها باعتبارها مسارا ثوريا هدَّد النظم العربية التابعة، وهدَّد بأن ينتقل إلى مناطق أخرى في العالم. وفي كل الأحوال، أعطى الأمل في التغيير، هذا الأمر الذي باتت شعوب كثيرة تحتاجه. فالرأسمالية في أزمة انفجرت في 15 سبتمبر/ أيلول سنة 2008. وحين بدأت الثورات (كانت نتاج هذه الأزمة)، كانت أميركا تشعر بالعجز عن حلّ أزمتها تلك، وظهر لها أنه ليس ممكنا حلها أصلاً. ولهذا كان يعني بدء الثورة هنا، في الوطن العربي الذي ظل الغرب ينظر إليه على أنه متخلف ومهمش وعاجز عن التغيير، أنها سوف تنتقل رغماً عن الرأسمالية إلى بلدان كثيرة في عالم مأزوم، ويعاني من المشكلات نفسها (البطالة، الفقر، التهميش والاستبداد، وكذلك النهب الذي تمارسه الطغم الإمبريالية). هذه الأزمة هي التي حدَّدت كيفية تعامل العالم مع هذه الثورات.
عملت أميركا على تحقيق تحوّل سريع في تونس يمتصّ الانفجار، ويرسي بديلاً يوهم بتحقيق تغيير، ويكون أساسه هو الانتخابات وتعزيز الطبقة المسيطرة بقوة "لها شعبية" (أي حركة
النهضة). وأكملت ذلك في مصر أيضاً بالعمل على تحقيق تغيير سريع، ووفق المنظور نفسه. لقد أرادت في هذين البلدين الالتفاف السريع على الثورة كي لا تمتدّ، لكنها امتدت إلى اليمن والبحرين وليبيا ثم سورية. وبهذا باتت مواجهتها تحتاج إلى سبيل آخر: العنف. لهذا سحقت السعودية الثورة في البحرين، وناورت لمنع انتصار الثورة اليمنية، بينما تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا كـ "داعم للثورة"، لكنه ظهر قوة تدمير هناك. ولعبت السعودية الدور المباشر في البحرين واليمن، لكنها لعبت الدور غير المباشر في سورية، حيث كانت معنية مباشرة بوقف الامتداد الثوري، لأنها اعتقدت أنه سيصل إليها. وبدت روسيا خائفة من الثورات، كذلك إيران التي شعرت أنها ستفقد "حليفها" السوري، وممرها إلى لبنان. وأيضاً أوروبا التي تلمست بعض امتدادات الثورة إلى إسبانيا واليونان.
لهذا كانت كل الدول العربية، والإقليمية والإمبريالية، تسعى إلى أن يتوقف هذا "الجنون"، وأن تسحق الثورة قبل أن تتوسع فتهدد بلدانها، والرأسمالية ككل. في ليبيا، أُدخلت في متاهة صراعات محلية هي امتداد لصراعات إقليمية ودولية. وفي اليمن، بعد إزاحة علي عبدالله صالح بمجهود كبير، فجّر الوضع بالتحالف مع الحوثيين، فتدخل "التحالف العربي"، الذي أكمل تدمير اليمن، وتفكيكه، بحجة محاربة الحوثيين والنفوذ الإيراني. لكن سورية كانت "الكنز" الذي يحقق أحلام الرأسمالية والطغاة، حيث تحكمها مجموعة لا مانع لديها من أن تمارس أبشع الوحشية، فقد شهد العالم مجازر سنة 1982، ويعرف أن النظام القائم يمكن أن يكرّرها في مجمل مناطق سورية. ولقد رفع شبيحته شعار "الأسد أو نحرق البلد"، وهذا جميل لرأسمالية مأزومة وخائفة من توسّع كبير في الثورة. ولتحقيق ذلك، اشتغلت أطراف متعددة، بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، لإيصال الصراع إلى ما نشهده اليوم.
أوهمت أميركا منذ البدء أنها تتدخل، أرادت أن تشوه الثورة، وتعطي مبرّراً للنظام لكي يسحقها تحت شعارات وطنية تؤثر في الشعب السوري. واشتغلت السعودية على دعم النظام في "السر"، فساعدت على أسلمة الثورة كما أراد النظام. وعملت قطر وتركيا على الأسلمة، بعد أن فشلا بإقناع الأسد بـ "الإصلاح". وكل هؤلاء شوهوا الكتائب المسلحة التي ردت على وحشية النظام، بأسلمتها وربطها مالياً، وتعزيز التناقضات فيما بينها. وكل هؤلاء "شربكوا" المعارضة بهم، وأخضعوها لتكتيكاتهم، فباتت تابعة لسياسات نظم. وإذا كانت أميركا تبدو أنها تريد لمجلس الأمن أن يتخذ قراراتٍ "حاسمة"، فقد كانت فرحة بالفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن. في المقابل، تدخلت إيران بقوات من حزب الله أولاً، ثم بقوات عراقية وأفغانية وباكستانية، ومن ثم من الحرس الثوري، لدعم النظام تحت أعين "أعدائها": أميركا والدولة الصهيونية. وأتت القوات الروسية بعد لقاء شديد الودية بين الرئيسين، باراك أوباما وفلاديمير بوتين، ساعات قليلة قبل إعلان التدخل العسكري الروسي، فروسيا تخشى الثورة، لهذا صرّح وزير دفاعها، سيرجي شويغو، إن روسيا "كسرت موجة الثورات"، لكنها تريد أن تسيطر بعد أن ظهر تراجع أميركا، وإعلانها الانسحاب من الشرق الأوسط.
بالتالي، في مواجهة الثورة السورية عملت أطرافٌ على تفكيكها وتشويهها، وأخرى مارست أبشع الوحشية ضدها. وكان يجب أن تُمارس أبشع الوحشية لـ "تأديب" شعوب العالم، وإفهام هؤلاء أن الثورة ممنوعة، وأن من يقوم بها سوف يسحق بكل الوحشية التي مورست في سورية. هذا ما كانت تريده الدول الإمبريالية من أميركا إلى روسيا، ولقد منعت محاسبة النظام، على الرغم من كل التقارير التي أصدرتها هيئات دولية، ولهذا كانت "الدبلوماسية" هي التغطية على المجزرة، وظلت التصريحات "الغربية"، والتنديد العالمي بلا معنى، بالضبط لأن هذه الدول كانت تريد التمويه فقط، لكنها في الواقع كانت تدعم المجزرة.
كان يجب تأديب شعوب العالم في وضعٍ تعيش الرأسمالية أصعب أزماتها، وكانت روسيا "حصن الرجعية" الذي تولى المهمة بعد فشل النظام السوري، وإيران بكل قواتها التي حشدتها. وبهذا، التقت وحشية النظام مع وحشية النظام العالمي، وأداته روسيا، في مرحلة أزمةٍ عميقة تعيشها الرأسمالية.
حرب ضد العالم
بهذا أصبحت الثورة حرباً ضد العالم، ولم تعد حراكاً يسعى إلى تغيير النظام فقط. حققت تحولاً بعد عام من بدئها ظهرت نتائجه نهاية سنة 2012، حيث توضّح ضعف النظام وتخلخل بنيته. وذلك كله بزخم الحراك الشعبي الذي بات يُدعم بعمل عسكري، وقبل الوجود الفعلي لجبهة
النصرة و"داعش"، وكل المجموعات السلفية. تحقق ذلك على الرغم من كل الوحشية التي واجه النظام الشعب بها، حيث تكسرت قوته الصلبة (الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري) وبات الجيش في حالة احتقانٍ لا تسمح بمشاركته في الصراع ضد الشعب، الأمر الذي فرض سحبه من مناطق واسعة في الشمال السوري ومناطق أخرى، ووضعه في معسكرات مغلقة.
لم يرق هذا الوضع لكل الدول التي كانت معنية بسحق الثورة، لهذا زجّت إيران بقوات حزب الله والمليشيا الطائفية العراقية، والحرس الثوري على أمل سحق الثورة. واشتغلت دول إقليمية على تعزيز الطابع العسكري للثورة وإخماد الحراك الشعبي، مع دعم أكبر للمجموعات السلفية، ولجبهة النصرة وداعش. لقد تدخّل حزب الله علناً بداية سنة 2013 في معركة القصير، لكن دوره توسّع، وبات يُدعم بمجموعات كبيرة من العراق وأفغانستان وباكستان، والحرس الثوري الإيراني، وهو الأمر الذي حوّل الثورة إلى صراع مسلح وحرب حقيقية، كان الزخم الشعبي يجعلها في غير صالح كل هؤلاء، على الرغم من التركيز على دور جبهة النصرة وداعش من النظام وإيران وكل الدول الإقليمية وأميركا وحتى روسيا. وكانت هذه "خطة" محكمة أضرّت بقوة الثورة، وخدمت النظام بشكل كبير. وهنا بات الصراع ليس ضد النظام فقط، بل كذلك ضد إيران وأدواتها من طرف، وضد "داعش" وجبهة النصرة من طرف آخر. وعلى الرغم من التحالفات مع "النصرة" في بعض الأوقات، كان صراع "داعش" و"النصرة" الأساسي هو ضد قوى الثورة، حيث عملت جبهة النصرة على قضم المناطق "المحررة"، وتصفية الكتائب المسلحة الواحدة بعد الأخرى.
على الرغم من ذلك كله، لم تستطع إيران وما تبقى من قوات النظام حسم الصراع. على العكس، ظهرت هشاشة وضعهما حينما قرّرت دول إقليمية (السعودية، قطر وتركيا) تعديل ميزان القوى، بما يفرض تحقيق حل سياسي، من خلال تحقيق "توحيد" لعدد من المجموعات (أحرار الشام وجبهة النصرة وغيرهما)، حيث انهارت قوات إيران والنظام بسهولة ربيع سنة 2015 وصيفها. وكانت تناقضات المصالح هي التي فرضت هذا الدور لهذه الدول، والتي ظهرت في الصدام التركي الروسي بعدئذ، وعقد التفاهمات الروسية السعودية والخليجية عموماً، ومع تركيا. لقد ظهر عجز إيران والنظام عن الحسم، بل إنهما أخذا في الانهيار. لهذا هرع قاسم سليماني إلى موسكو، لكي يحثها على التدخل. بالتالي، إذا كانت الثورة قد هددت وضع النظام، وكان ممكناً أن تفرض تغييره، فقد أدت الثورة، بدعم إقليمي محدود، إلى هزيمة إيران
وكل أدواتها، حيث ظهر عجزها عن حماية النظام وضمان استمراره. بالتالي، انتقل الصراع إلى أن يكون مع روسيا بكل تفوقها العسكري، لكن قبل الإشارة إلى ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أدوار تركيا وأميركا التي كانت تخدم سحق الثورة. أميركا التي كانت تلعب بـ"داعش" في العراق، ومن ثم في سورية، لكي تتدخل من أجل أن تحوز على ورقة مساومة مع روسيا، بعد أن وكَّلت روسيا بسورية. ولقد أعلنت أنها لا تريد إسقاط النظام، على الرغم من أنها كانت تناور لإطالة أمد الصراع، وعملت على تحويل كتائب تقاتل النظام إلى قتال "داعش" فقط، وكان هذا هو شرط دعمها، وشلّت الجبهة الجنوبية، ومن ثم سيطرت على شرق سورية وشمال شرقها، ووضعت يدها على آبار النفط في إطار المساومة مع روسيا. أما تركيا فقد انطلقت من مصالحها، لهذا حوّلت نشاط كتائب مسلحة من قتال النظام إلى قتال "داعش"، ثم قتال قوات سورية الديمقراطية، حيث انطلقت من أولوية منظورها من دون اعتبار لوضع الشعب السوري، على الرغم من كل البكاء عليه. وهنا، تجب الإشارة إلى تصاعد دور الصراعات الإقليمية والدولية، وميل كل الأطراف إلى أن تحقق مكاسب على حساب الشعب السوري.
إذن، بات الشعب السوري يواجه، بأشكال مختلفة، ما تبقى من النظام وإيران، بكل أدواتها وقدراتها العسكرية، ومن ثم روسيا بكل تفوقها، حيث استخدمت أحدث الأسلحة، وجرَّبت أكثر من مائتي سلاح جديد فائق التأثير، وباتت هي القوة التي تقود الصراع الفعلي ضد الشعب السوري. بالتالي، تحولت الثورة التي بدأت ضد النظام إلى صراع مع دول إقليمية، وتراكب عليها صراع إقليمي، ثم إلى صراع ضد قوة عطمى تمارس كل وحشيتها، وتحظى بتصفيق كل الدول الأخرى، التي تعاونها بأشكال مختلفة. هو صراع الشعب السوري ضد العالم.
لا انتصار للنظام وإيران وروسيا
هل تستطيع روسيا سحق الثورة؟ على الرغم من كل المساعدة التي تُقدَّم سراً وعلناً من كل العالم، فإن روسيا لن تنتصر. ربما تستطيع تصفية كل الكتائب المسلحة، لكنها لن تستطيع تكريس النظام. لقد انقطعت الصلة بين الشعب والنظام، سواء ممن بقي تحت سلطته، أو من
عاش في المناطق الخارجة عن هذه السيطرة، أو المهجّرين خارج سورية. فقد بات وحشاً، لكن بلا قوى، بعد أن فقد معظم الجيش وتفكك بنية السلطة. وبات وجوده معتمداً على وجود قوات إيران وروسيا، لكنه وجود سيكون قلقاً، لأنه سيبقى معرضاً للهجوم والمواجهة. وهو أمر يستنزف روسيا وإيران، ويمكن أن يكون وضعاً مناسباً في الصراعات العالمية، لجرّ روسيا إلى مستنقع جديد. ما تقوم به روسيا وقام به النظام هو قتل الشعب أو تشريده، أو هروبه، خصوصاً الشباب منه. بالتالي، هو يفقد القدرة على بناء جيش أو قوة أمنية، ولا يستطيع إعادة بناء السلطة بالقوة التي كانت عليها، أو حتى ربعها، وبالأساس ستبقى سلطة بلا قوة. ولن يفيدها الاعتماد على روسيا وإيران زمنا طويلا. بالتالي، بات وضع سورية يتحدَّد في إما النظام أو الشعب، أي إما بقاء النظام وبالتالي استمرار الصراع وجرّ روسيا إلى مستنقع، أو فرض بديل عن النظام يسمح بعودة المهجرين وإعادة بناء الدولة. ولا شك أن إنهاء احتلال روسيا يقع ضمن هذا الحلّ، فهي التي وقعت اتفاقات إذعان "تشرعن" ذلك، على الرغم من أن كل الوجود العسكري الإمبريالي والإقليمي هو احتلال يجب أن ينتهي.
لم يكن السلاح هو الثورة، فقد تمرّد الشعب من أجل إسقاط النظام، وسيبقى متمرّداً، لكن سيبقى للسلاح دور ضد بقايا النظام، والاحتلالين الروسي والإيراني، وكل الاحتلالات الأخرى. لقد نشأ جيل من المقاتلين، ومن الثوريين الذين اكتسبوا خبرة، فليس الجيش الروسي وحده من اكتسب خبرة في حربه ضد الشعب السوري، كما صرّح بوتين. وهذه الخبرة سوف تنتج ثورة أكثر جذرية، وتنظيماً وفاعلية، بلا أسلمة ولا تبعية لدول لها مصالحها، وهي ضد الثورة بالأساس.
لماذا هذه الوحشية؟
أمل ثوري عمّ العالم، ربما كان لا بد من أن يتفتت. ومن هذا المنطلق، لا بدّ من أن نفهم كل ما جرى في سورية، ونعرف سبب الوحشية التي مارسها النظام، وروسيا وإيران تحت أنظار العالم، الذي لم يفعل سوى التنديد والشجب شكلاً، وغض النظر عما يجري فعلاً. لم يكن الموقف العالمي ناتجا عن عجز، ولا نتيجة لا مبالاة، على العكس كان فرحاً بما يجري، ولقد اشتغلت دول إمبريالية على "النكز" و"اللعب" لكي تزداد الوحشية.
المؤسف أنه جرى النظر إلى الثورات في البلدان العربية منفصلا كل منها عن الأخرى، وجرت معالجة وضع كل منها بشكل مختلف عن الأخرى، وحتى المواقف اختلفت من ثورة إلى أخرى. بينما نظر كل العالم الإمبريالي إليها سياقا واحدا، وانفجارا موحدا. ولهذا عمل على التصدي لها باعتبارها مسارا ثوريا هدَّد النظم العربية التابعة، وهدَّد بأن ينتقل إلى مناطق أخرى في العالم. وفي كل الأحوال، أعطى الأمل في التغيير، هذا الأمر الذي باتت شعوب كثيرة تحتاجه. فالرأسمالية في أزمة انفجرت في 15 سبتمبر/ أيلول سنة 2008. وحين بدأت الثورات (كانت نتاج هذه الأزمة)، كانت أميركا تشعر بالعجز عن حلّ أزمتها تلك، وظهر لها أنه ليس ممكنا حلها أصلاً. ولهذا كان يعني بدء الثورة هنا، في الوطن العربي الذي ظل الغرب ينظر إليه على أنه متخلف ومهمش وعاجز عن التغيير، أنها سوف تنتقل رغماً عن الرأسمالية إلى بلدان كثيرة في عالم مأزوم، ويعاني من المشكلات نفسها (البطالة، الفقر، التهميش والاستبداد، وكذلك النهب الذي تمارسه الطغم الإمبريالية). هذه الأزمة هي التي حدَّدت كيفية تعامل العالم مع هذه الثورات.
عملت أميركا على تحقيق تحوّل سريع في تونس يمتصّ الانفجار، ويرسي بديلاً يوهم بتحقيق تغيير، ويكون أساسه هو الانتخابات وتعزيز الطبقة المسيطرة بقوة "لها شعبية" (أي حركة
لهذا كانت كل الدول العربية، والإقليمية والإمبريالية، تسعى إلى أن يتوقف هذا "الجنون"، وأن تسحق الثورة قبل أن تتوسع فتهدد بلدانها، والرأسمالية ككل. في ليبيا، أُدخلت في متاهة صراعات محلية هي امتداد لصراعات إقليمية ودولية. وفي اليمن، بعد إزاحة علي عبدالله صالح بمجهود كبير، فجّر الوضع بالتحالف مع الحوثيين، فتدخل "التحالف العربي"، الذي أكمل تدمير اليمن، وتفكيكه، بحجة محاربة الحوثيين والنفوذ الإيراني. لكن سورية كانت "الكنز" الذي يحقق أحلام الرأسمالية والطغاة، حيث تحكمها مجموعة لا مانع لديها من أن تمارس أبشع الوحشية، فقد شهد العالم مجازر سنة 1982، ويعرف أن النظام القائم يمكن أن يكرّرها في مجمل مناطق سورية. ولقد رفع شبيحته شعار "الأسد أو نحرق البلد"، وهذا جميل لرأسمالية مأزومة وخائفة من توسّع كبير في الثورة. ولتحقيق ذلك، اشتغلت أطراف متعددة، بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، لإيصال الصراع إلى ما نشهده اليوم.
أوهمت أميركا منذ البدء أنها تتدخل، أرادت أن تشوه الثورة، وتعطي مبرّراً للنظام لكي يسحقها تحت شعارات وطنية تؤثر في الشعب السوري. واشتغلت السعودية على دعم النظام في "السر"، فساعدت على أسلمة الثورة كما أراد النظام. وعملت قطر وتركيا على الأسلمة، بعد أن فشلا بإقناع الأسد بـ "الإصلاح". وكل هؤلاء شوهوا الكتائب المسلحة التي ردت على وحشية النظام، بأسلمتها وربطها مالياً، وتعزيز التناقضات فيما بينها. وكل هؤلاء "شربكوا" المعارضة بهم، وأخضعوها لتكتيكاتهم، فباتت تابعة لسياسات نظم. وإذا كانت أميركا تبدو أنها تريد لمجلس الأمن أن يتخذ قراراتٍ "حاسمة"، فقد كانت فرحة بالفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن. في المقابل، تدخلت إيران بقوات من حزب الله أولاً، ثم بقوات عراقية وأفغانية وباكستانية، ومن ثم من الحرس الثوري، لدعم النظام تحت أعين "أعدائها": أميركا والدولة الصهيونية. وأتت القوات الروسية بعد لقاء شديد الودية بين الرئيسين، باراك أوباما وفلاديمير بوتين، ساعات قليلة قبل إعلان التدخل العسكري الروسي، فروسيا تخشى الثورة، لهذا صرّح وزير دفاعها، سيرجي شويغو، إن روسيا "كسرت موجة الثورات"، لكنها تريد أن تسيطر بعد أن ظهر تراجع أميركا، وإعلانها الانسحاب من الشرق الأوسط.
بالتالي، في مواجهة الثورة السورية عملت أطرافٌ على تفكيكها وتشويهها، وأخرى مارست أبشع الوحشية ضدها. وكان يجب أن تُمارس أبشع الوحشية لـ "تأديب" شعوب العالم، وإفهام هؤلاء أن الثورة ممنوعة، وأن من يقوم بها سوف يسحق بكل الوحشية التي مورست في سورية. هذا ما كانت تريده الدول الإمبريالية من أميركا إلى روسيا، ولقد منعت محاسبة النظام، على الرغم من كل التقارير التي أصدرتها هيئات دولية، ولهذا كانت "الدبلوماسية" هي التغطية على المجزرة، وظلت التصريحات "الغربية"، والتنديد العالمي بلا معنى، بالضبط لأن هذه الدول كانت تريد التمويه فقط، لكنها في الواقع كانت تدعم المجزرة.
كان يجب تأديب شعوب العالم في وضعٍ تعيش الرأسمالية أصعب أزماتها، وكانت روسيا "حصن الرجعية" الذي تولى المهمة بعد فشل النظام السوري، وإيران بكل قواتها التي حشدتها. وبهذا، التقت وحشية النظام مع وحشية النظام العالمي، وأداته روسيا، في مرحلة أزمةٍ عميقة تعيشها الرأسمالية.
حرب ضد العالم
بهذا أصبحت الثورة حرباً ضد العالم، ولم تعد حراكاً يسعى إلى تغيير النظام فقط. حققت تحولاً بعد عام من بدئها ظهرت نتائجه نهاية سنة 2012، حيث توضّح ضعف النظام وتخلخل بنيته. وذلك كله بزخم الحراك الشعبي الذي بات يُدعم بعمل عسكري، وقبل الوجود الفعلي لجبهة
لم يرق هذا الوضع لكل الدول التي كانت معنية بسحق الثورة، لهذا زجّت إيران بقوات حزب الله والمليشيا الطائفية العراقية، والحرس الثوري على أمل سحق الثورة. واشتغلت دول إقليمية على تعزيز الطابع العسكري للثورة وإخماد الحراك الشعبي، مع دعم أكبر للمجموعات السلفية، ولجبهة النصرة وداعش. لقد تدخّل حزب الله علناً بداية سنة 2013 في معركة القصير، لكن دوره توسّع، وبات يُدعم بمجموعات كبيرة من العراق وأفغانستان وباكستان، والحرس الثوري الإيراني، وهو الأمر الذي حوّل الثورة إلى صراع مسلح وحرب حقيقية، كان الزخم الشعبي يجعلها في غير صالح كل هؤلاء، على الرغم من التركيز على دور جبهة النصرة وداعش من النظام وإيران وكل الدول الإقليمية وأميركا وحتى روسيا. وكانت هذه "خطة" محكمة أضرّت بقوة الثورة، وخدمت النظام بشكل كبير. وهنا بات الصراع ليس ضد النظام فقط، بل كذلك ضد إيران وأدواتها من طرف، وضد "داعش" وجبهة النصرة من طرف آخر. وعلى الرغم من التحالفات مع "النصرة" في بعض الأوقات، كان صراع "داعش" و"النصرة" الأساسي هو ضد قوى الثورة، حيث عملت جبهة النصرة على قضم المناطق "المحررة"، وتصفية الكتائب المسلحة الواحدة بعد الأخرى.
على الرغم من ذلك كله، لم تستطع إيران وما تبقى من قوات النظام حسم الصراع. على العكس، ظهرت هشاشة وضعهما حينما قرّرت دول إقليمية (السعودية، قطر وتركيا) تعديل ميزان القوى، بما يفرض تحقيق حل سياسي، من خلال تحقيق "توحيد" لعدد من المجموعات (أحرار الشام وجبهة النصرة وغيرهما)، حيث انهارت قوات إيران والنظام بسهولة ربيع سنة 2015 وصيفها. وكانت تناقضات المصالح هي التي فرضت هذا الدور لهذه الدول، والتي ظهرت في الصدام التركي الروسي بعدئذ، وعقد التفاهمات الروسية السعودية والخليجية عموماً، ومع تركيا. لقد ظهر عجز إيران والنظام عن الحسم، بل إنهما أخذا في الانهيار. لهذا هرع قاسم سليماني إلى موسكو، لكي يحثها على التدخل. بالتالي، إذا كانت الثورة قد هددت وضع النظام، وكان ممكناً أن تفرض تغييره، فقد أدت الثورة، بدعم إقليمي محدود، إلى هزيمة إيران
إذن، بات الشعب السوري يواجه، بأشكال مختلفة، ما تبقى من النظام وإيران، بكل أدواتها وقدراتها العسكرية، ومن ثم روسيا بكل تفوقها، حيث استخدمت أحدث الأسلحة، وجرَّبت أكثر من مائتي سلاح جديد فائق التأثير، وباتت هي القوة التي تقود الصراع الفعلي ضد الشعب السوري. بالتالي، تحولت الثورة التي بدأت ضد النظام إلى صراع مع دول إقليمية، وتراكب عليها صراع إقليمي، ثم إلى صراع ضد قوة عطمى تمارس كل وحشيتها، وتحظى بتصفيق كل الدول الأخرى، التي تعاونها بأشكال مختلفة. هو صراع الشعب السوري ضد العالم.
لا انتصار للنظام وإيران وروسيا
هل تستطيع روسيا سحق الثورة؟ على الرغم من كل المساعدة التي تُقدَّم سراً وعلناً من كل العالم، فإن روسيا لن تنتصر. ربما تستطيع تصفية كل الكتائب المسلحة، لكنها لن تستطيع تكريس النظام. لقد انقطعت الصلة بين الشعب والنظام، سواء ممن بقي تحت سلطته، أو من
لم يكن السلاح هو الثورة، فقد تمرّد الشعب من أجل إسقاط النظام، وسيبقى متمرّداً، لكن سيبقى للسلاح دور ضد بقايا النظام، والاحتلالين الروسي والإيراني، وكل الاحتلالات الأخرى. لقد نشأ جيل من المقاتلين، ومن الثوريين الذين اكتسبوا خبرة، فليس الجيش الروسي وحده من اكتسب خبرة في حربه ضد الشعب السوري، كما صرّح بوتين. وهذه الخبرة سوف تنتج ثورة أكثر جذرية، وتنظيماً وفاعلية، بلا أسلمة ولا تبعية لدول لها مصالحها، وهي ضد الثورة بالأساس.