وفقًا للجنة حماية الصحافيين - مقرّها في نيويورك - المعنية بحماية حرية الصحافة حول العالم، تعدّ سورية أخطر مكان في العالم لعمل الصحافيين منذ أكثر من عامين. وتقول اللجنة إن ستة وتسعين صحافيًا على الأقلّ، قُتلوا نتيجة لتغطية الصراع في سورية منذ عام 2011. بناءً على هذا التقرير الفاصل والحاسم، فإن كلّ من يذهب إلى هناك، لا بدّ أن يكون إمّا مغامرًا، أو فيه مسّ من الجنون، أو يربطه شغفٌ قويّ ببلاد الشام، وبمهنة الصحافة نفسها أيضًا.
بيد أن الصحافية الفرنسية المختصّة بالتحقيقات صوفيا عمارة، ذات الأصل المغربي، لم تعمل بالطبع وفقًا لتوصية المنظمات الحقوقية، ولا لجنة حماية الصحافيين. على العكس، دسّت في حقيبتها كاميرا، واستقلّت سيارة أجرة، لتعبر الحدود اللبنانية السورية. "تسللت" إلى هناك قبل أن توصد الأبواب إذن، ويبدأ القتل الجماعي الذي يدور في حلقة مفرغة. شعرت صوفيا أنه لا بدّ من نقل هول الفاجعة، وإذ فعلت، فقد أدركت في الوقت عينه وفورًا أن الدولة الإسلامية (داعش) التي ترهب الشرق وترعبه، وتهدّد الغرب، هي صنيعة من صنائع طاغية دمشق، وأن هذا الأخير حليفها الموضوعي. فقد "ابتكر" بشار الأسد داعش كفزّاعة، ليحرّكها أمام المجموعة الدولية، وليظهر بمظهر الذراع القادرة على صدّ "الإرهاب". وقد انساقت المجموعة الغربية وراء المنطق القائل إنه من الأفضل الاحتفاظ بدكتاتور سفّاك بدلًا من سقوط البلد بين أيدي الأصوليين. وكانت النتيجة، كما تشير صوفيا، ماثلةً للعيان عبر "مزيدٍ من التفكّك وسفك الدماء". المفارقة، أن النظام السوري اتهم خصومه، وبالأخص فرنسا، بتصدير الإرهاب إلى سورية عبر جهاديين فرنسيين التحقوا بـ "داعش". لم يفتْ الصحافية أيضًا الوقوف عند حجم المأساة بفصولها المرعبة من أعمال التعذيب، إلى انسياق المقاومة نحو المنحى الجهادي. بيد أن الأخطر في "مغامرة" عمارة، أن الاستخبارات السورية كانت قد وضعتها في القائمة السوداء للصحافيين غير المرغوب فيهم، وذلك بسبب تحقيق مصوّر أجرته لصالح القناة الفرنسية الألمانية "آرتي"، بعنوان: "سورية في جحيم القمع".
رغم كل تلك العوائق، دخلت صوفيا إلى سورية. لكن المؤسسة التي كانت تعمل لديها، ألغت جميع التحقيقات في سورية، على أثر مقتل الصحافية اليابانية ميكا ياماموتو في فبراير/ شباط، عام 2013. فطالبتها المؤسسة بالعودة إلى فرنسا. بيد أن صوفيا أدركت أنها الفرصة المثلى لا للتصوير بل للكتابة. هكذا ولد كتابها "متسللة إلى الجحيم السوري؛ من ربيع دمشق إلى الدولة الإسلامية" (منشورات ستوك). الكتابة من أجل إتاحة مجال الكلام لأولئك الذين لم يستمع أحد إليهم، لمّا رفعوا أصواتهم محذّرين من خطر "الأسلمة"، الذي يهدّد الثورة، ومن التصدّع الذي يمكن أن يطال المجتمع برمّته. حافظت الصحافية على علاقتها ببعض من هؤلاء الناشطين، في حين توفي عدد منهم. في غياب التصوير، تتدخّل الكتابة من أجل "مقاومة النسيان، ومناهضة الكذب والتحالفات المشبوهة". وتتدخل أيضًا لأن ما هو أسوأ وأبشع آتٍ لا محالة، لا إلى سورية وحدها بل إلى دول عربية أخرى.
يمثّل الكتاب محصلة تجربة مباشرة ومأساوية حدّ الفاجعة، نقلت من خلالها عمارة شحنات قوّية من الغضب. ويمثّل في الوقت نفسه، إيجازًا مكثّفًا لنضال شعب ضدّ نظام استبدادي يستند على سياسة الأرض المحروقة، من خلال مجموعة من الحكايات الدرامية، التي قد تصلح مادّة لروايات تختلط فيها المآسي. وعبر تجربتها وكتابها، أظهرت صوفيا أن وسائل التواصل الاجتماعية هي ابنة شرعية للثورة السورية، ففي ظلّ القمع والحصار بكافّة أشكاله، أصبح سكايب وفيسبوك أداتين رئيستين في التواصل بين الناشطين الذين يعيدون تعريفها وتشفيرها، تجنبًا لملاحقة الاستخبارات لهم. ففي موازاة الحرب الدائرة في الشوارع، ثمّة حرب إلكترونية يخوضها الشباب يوميًا.
ولا بدّ من الإشارة، إلى أنه منذ اندلاع الثورة، كُتب الكثير "فرنسيًا" عن سورية والصراع "السيزيفي" والدامي الدائر فيها. وكان التحقيق الذي أجراه الروائي الفرنسي جوناثان ليتل (الحائز على جائزتي غونكور وجائزة الرواية من الأكاديمية الفرنسية) تحت عنوان "دفاتر حمص" (غاليمار) من أهمّ الكتب الصادرة وأولها، وهو تحقيق كلّفته به جريدة لوموند، دوّن فيه وقائع رحلته السريّة مدّة أسبوعين إلى مدينة حمص وما شهده فيها من أهوال وعمليات قمع منهجية لأبنائها على يد النظام السوري. وخفيةً أيضًا تسلّل أستاذ العلوم السياسية والمؤرّخ الفرنسي جان بيير فيليو إلى حلب، وأعدّ تحقيقًا تحت عنوان "أخاطبكم من حلب" (دو نويل). ودوّنت الصحافية الفرنسية من جريدة "لوفيغارو"، والعاملة في محطة "فرانس إنتير"، إديث بوفييه شهادتها في كتاب "غرفة مطلّة على الحرب" (فلاماريون). وكانت بوفييه قد أصيبت في شهر فبراير/ شباط عام 2012، بجروح خطيرة أثناء قصف على مدينة حمص، أودى بحياة زميلين لها هما الصحافيان ماري كوافين وريمي أوشليك. ويضاف إلى الكتب الآنفة، كتاب بحثي أعدّه وأشرف على تنسيقه باحثان فرنسيان هما فرانسوا بورغا، وبرونو باولي تحت عنوان "لا ربيع لسورية" (لا ديكوفيرت). ولا ننسى كتاب الراهب "المخطوف" باولو داللوليو "الغضب والنور".
لا يقلّ كتاب عمارة في الأهمية عن أي من الكتب الصادرة، ويشترك معها أيضًا في انتفاء ترجمته إلى اللغة العربية. فإن أيًا من هذه الكتب، ولا غيره الكثير، لم يُترجم ولم يصل إلى القارئ العربي، فضلًا عن ندرة عدد الصحافيين العرب الذين يقومون بتحقيقات مماثلة، يدوّنون من خلالها شهاداتهم. ما يدفع فورًا إلى التساؤل عن سبب إهمال هذه الكتب من قبل دور النشر العربية، أهو عائدٌ إلى جهلهم بصدورها أو عدم معرفتهم بأهميتها، أمّ ثمّة اعتبارات أخرى؟