لا يثق المريض السوداني بأطباء البلاد ولا بمستشفياتها، وسط قصور في التخصصات النادرة عموماً، فيرى نفسه يطلب العلاج في الخارج، مع انتشار التشخيص الخاطئ والأخطاء الطبية في الداخل.
يندر أن تقلع طائرة متّجهة إلى مصر أو الأردن من مطار الخرطوم، من دون أن تحمل ركّاباً سودانيين في حاجة إلى علاج في الدولتين اللتين انضمت إليهما أخيراً الهند وتايلاند. ويُلحَظ تزايد في عدد طالبي العلاج في الخارج، على الرغم من محاولات الحكومة السودانية لتوطين العلاج في داخل البلاد.
أعلن مستشفى أحمد قاسم المتخصص في أمراض القلب أخيراً، عن 600 حالة على لائحة الانتظار، من بينهم أطفال لا بدّ من خضوعهم إلى عمليات جراحية، وذلك بسبب النقص الحاد في الأطباء. ثمّة طبيب واحد متخصص في جراحة القلب في المستشفى يجري كلّ تلك العمليات. ويواجه قطاع الصحة عموماً في السودان مشاكل حقيقية ناتجة عن ضعف الدعم الذي تقدّمه الدولة. فهذا القطاع يأتي في أسفل قائمة أولويات الحكومة، الأمر الذي يدفع بآلاف الأطباء المتميّزين إلى الهجرة بحثاً عن تحسين أوضاعهم الماديّة.
وكان رئيس القومسيون الطبي العام في السودان، يس عباس، قد صرّح بأنّ عدد طالبي العلاج في الخارج خلال العام الفائت تجاوز ألف مريض، بكلفة بلغت 23 مليون دولار أميركي، مشيراً إلى أنّ مصر هي من أكثر الدول التي يقصدها السودانيون المرضى. لكنّ مراقبين يشيرون إلى أنّ تلك البيانات تعود إلى ما هو مسجّل لدى القومسيون الطبي، ومعظمها يتصل بالمؤسسات الحكومية. وتفيد إحصاءات غير رسمية بأنّ أكثر من ثلاثة آلاف سوداني يسافرون إلى الخارج طلباً للعلاج بطرقهم الخاصة من دون اللجوء إلى القومسيون الطبي أو أيّ جهاز حكومي آخر.
في السياق، كان وزير الصحة في ولاية الخرطوم مأمون حميدة، قد صرّح في وقت سابق بأنّ 70 في المائة من المرضى في السودان يطلبون العلاج في الخارج، مؤكداً على جهود الحكومة لتوطين العلاج في الداخل، لا سيّما علاج القلب، فقال إنّه "بحلول عام 2020 لن يحتاج أيّ مريض إلى السفر لتلقّي العلاج في المجالات المختلفة"، موضحاً أنّ "البلاد تخسر سنوياً نحو 400 مليون دولار في علاج الخارج".
في عام 2009، كان حميدة لا يزال رئيساً لجمعية متخصصي الطب الباطني، فقال: "أريد أن أسافر لإجراء عملية جراحية. إذا أقنعتموني بنجاحها في السودان، فلن أسافر". وكأنّه بذلك لخّص لجوء السودانيين إلى الخارج على الرغم من ضيق ذات اليد. يُذكرَ أنّ تكاليف العلاج تُجمع على شكل مساهمات من أهالي المرضى وأقربائهم وزملائهم وجيرانهم في الحيّ، في حال لم يكونوا مقتدرين. وقد يلجأ البعض إلى ديوان الزكاة الذي يتكفل بجزء بسيط من كلفة العلاج.
ويتّفق أطباء سودانيون على أنّ فقدان المريض الثقة في طبيبه في الوطن واحد من أبرز أسباب طلب العلاج في الخارج، على الرغم من الإرهاق الذي يعانيه المريض بالإضافة إلى تكاليف الرحلة. ويشيرون كذلك إلى رداءة الخدمات الطبية. فيرى البعض أنّ قصور الطب في السودان وغياب المعدات الخاصة المتطوّرة للتشخيص وللعلاج، هو سبب الهروب إلى الخارج، فضلاً عن تواضع إمكانيات التعليم وتوقّف البعثات الخارجية، الأمر الذي يحدّ من مواكبة الأطباء آخر المستجدات والتطورات في الطب وكذلك يمنعهم من تخصصات معيّنة. ويؤكد هؤلاء على أنّ الحل هو في دعم الدولة للقطاع الصحي وتشجيع الاستثمار الطبي، فضلاً عن التعاقد مع القطاع الخاص للتخصصات النادرة.
تجدر الإشارة إلى أنّه في عام 2006، أطلقت الحكومة السودانية مشروع توطين العلاج في الداخل، لكنّه حتى الآن لم يحقّق أهدافه. ويعيد مراقبون فشل المشروع إلى إنّه أطلق من دون دراسة كافية. وتقول ريم، وهي طبيبة في مستشفى حكومي تحفّظت عن ذكر هويّتها، إنّهم كأطباء "ننصح المرضى بالسفر إلى الخارج للحصول على خدمة علاجية متميّزة بسبب القصور في الداخل". تضيف: "هنا يتحمّل المريض كلفة كل شيء، وقد يدفع الأموال الطائلة فيما يحصل على تشخيص غير دقيق بسبب ضعف المعامل (المختبرات)". وتشير ريم إلى أنّها "كثيراً ما نصحت مرضى السرطان من الذين يخضعون إلى علاج كيميائي، بالسفر إلى القاهرة. الفرق واضح وقد يعود السبب إلى مشاكل في تخزين الأدوية هنا".
في السياق، عاشت نسيبة (27 عاماً)، مأساة حقيقية، إذ أصيبت بمرض جعلها تتنقّل من عيادة إلى أخرى في الخرطوم، فأدخلها الأطباء الذين استشارتهم في دوامة. تقول: "كل واحد منهم شخّص حالتي بطريقة مختلفة ووصف لي علاجاً مختلفاً. وفي النهاية، بقيت حالتي المرضية على حالها، لا بل راحت تزداد سوءاً". تضيف أنّه "بعدما ساءت حالتي، عمد أهلي إلى تسفيري إلى الأردن، حيث استلزم الأطباء وقتاً طويلاً لمعالجتي من الأدوية التي تناولتها بسبب التشخيصات الخاطئة. بعدها، تلقيت العلاج المناسب، وعدت إلى البلاد".
وكان المجلس الطبي السوداني قد أعلن في فبراير/ شباط الماضي، عن ارتفاع معدلات الأخطاء الطبية في البلاد بنحو 5.7 في المائة، الأمر الذي خلّف حالة من الهلع بين السودانيين، فسُجّلت اعتداءات متكررة على الأطباء من قبل مرافقي المرضى إلى جانب اهتزاز الثقة بالمستشفيات السودانية.