سواقي القلوب*

08 فبراير 2016
لوحة للفنان الألماني أوغست ماكه (Getty)
+ الخط -
سَقَطَ النصيفُ ولم تُرِد إسقاطَه
فتداركَتْه واتّقَتنا باليَدِ

سقط جدار برلين، وأنا قاعد في باريس، منكبٌّ على قواميسي في بولفار بلانكي، أنتظر أن تسقط جدران أخرى، أترجم مقالات ونصوصًا عن المخاض الأوروبي الكبير وأبعث بها إلى مجلات لا في العير ولا في النفير، لكنّ ما يأتيني منها يحفظ لي ماء وجهي. تواترت الأحداث بأسرع من قدرتي على ترجمتها. وانهار الاتحاد السوفياتي بقضّه وقضيضه، ذاك الذي كان، في مرحلة أساسية من فتوّتي، صنمًا جميلًا ومثالًا يُحتَذى في الوطن الحرّ والشعب السعيد.

تهاوى كما نمر من ورق، وتركني والملايين من أمثالي في الشرق والغرب، أشباه يتامى... يتامى فُطِموا على كِبَر بعدما تلقوا على الرؤوس ضربات أعادت إليهم الرشد الهارب. كان بين الرفاق من يحاول أن يتدارك الصدمة بالنقاش والتحليل والتفلسف العقيم. أما أنا، فقد أصابتني الأحداث بالخرس المعنوي رغم زعمي أنني كنت أرى الطوفان وهو آتٍ. أصبحت مثل فتى مُصاب بمرض التوحد، أتقوقع على نفسي وألوذ بهواجسي وأرى الآخرين يتحركون ويتحادثون وكأنهم يتحركون وراء زجاج عازل ويتحدثون فلا تصلني أصواتهم.

لن يغيب عن بالي كيف تسمرت واقفًا، في يوم صقيعي من أيام كانون، أمام إعلان مضيء للجوارب على لوحة في السان ميشيل يدعو الناس إلى الكشف عن كلساتهم والتباهي بها لأنها لم تعد، كما في السابق، شيئًا متواضعًا أو مثقوبًا تقضي اللياقة بإخفائه داخل الحذاء وتحت ذيل السروال.

اقرأ أيضًا: ملوخية حياة

صدمتني الصورة التي اختارها المعلنون للتأثير في المارة، كانت صورة جنرال سوفياتي منتفخ الأوداج، يلبس بزة شتوية خاكية وقبعة عسكرية عريضة، ويضع على صدره بفخر واعتزاز عدة صفوف من النياشين... نياشين تتدلى منها جوارب صغيرة ملوثة بدل أنواط الشجاعة وميداليات الشرف.

ذبحتني الفكرة الجهنمية لذلك الإعلان، وكدت أصرخ من القهر في وجه الخاتون عندما عادت من سوق الأنتيكا، بعد يومين، وهي تحمل لي قبعة عسكرية من مخلفات الجيش الأحمر. دقّت بابي على عجل وسلمتني إياها وواصلت صعودها اللاهث نحو شقتها، قبل أن تشهد مقتلي.

علقت القبعة على الجدار المقابل لطاولة الكتابة ورحت أمضي الوقت في تأمّلها، فأتأخر عن الترجمات المطلوبة مني. في النهاية رفعتها ورميت بها في موضع لا تقع عيني عليه... فوق خزانة الثياب.

يجيء زمزم ويلقي بين يديَّ بسلة شتائمه المعهودة فلا ألتفت إليه كثيراً. ويتعب من الكلام، أو من تجاهلي له، فيدعو عليَّ بطَيَحَان الحظ ويذهب صافقًا خلفه الباب لأني لم أعد أدخل معه في لعبة تحليلاته ولا أجاريه في اللطميّة التي يتوق إليها. ماذا تريد مني يا صاحبي؟ أن أقيم مجلسًا للعزاء على روح الاتحاد المرحوم، وأن أدور على الجيران بفناجين القهوة المرّة؟

كانت حرب إيران قد انتهت بعدما شبعت من عبّ الدماء على جانبي الحدود. وزالت عن رأس زمزم هالة "أخي الشهيد" مع عودة الآلاف ممن يتوكؤون على عاهاتهم ويبحثون عن موطئ قدم، أو عكّاز، في مدن لاهية مستلبة محكومة بالخوف، لا مزاج لديها للاستماع إلى كوابيسهم ولا دمعة فائضة تذرفها على همومهم.

عاد جرذان السفارة إلى التحرش بزمزم، لكنه كان قد سدّد الكفالة المطلوبة منه ودفع نقدًا بدل الذهاب إلى الجنديّة، تلك المحرقة التي يسمونها، زورًا، خدمة العَلَم. لقد اشترى صكّ بقائه في باريس بفلوس والده الحاج، وهي فلوس ساعدته، أيضًا، على تجربة مواهبه في البزنس ومحاولة تصدير أي شيء إلى البلد الغارق في أوحال ما بعد الحرب.

حتى سارة، تلكأت كثيرًا في العودة إلى العراق. ونفد المبلغ المخصص لعلاجها. وعندما كنتُ أسألها عن مشاريعها للمستقبل فإنها كانت تكتفي بالصمت، أو بنظرة أفهم منها أنها تعيد الكرة إلى ملعبي. لماذا يتعين عليها أن تفكر، وحدها، في مستقبلها ولا أفكر أنا في مستقبلي؟

أسألها ونحن نتمشى في الحيّ الصيني، نجمع النعناع والزنجبيل والفواكه التي طلبتها الخاتون:
- ألا تحنّين إلى علاوي بغداد الجديدة وسوق المخضَّر في الشوّاكة؟
- أي شوّاكة؟ لقد أزالوها وأقاموا في أماكنها عمارات للمسؤولين...
- ووالدتك وشقيقاتك ... ألا تشتاقين إليهن؟
- طبعاً أشتاق، لكنّ حريتي هنا. أمّا في بغداد، فلا ينتظرني سوى العار.

*مقطع من رواية "سواقي القلوب"
المساهمون