سهرة في حلب: مات الموسيقيّ ونجت الموسيقى

30 أكتوبر 2014
إحياء التراث الموسيقي الكردي بآلاتٍ حيّة (Getty)
+ الخط -
اقترحَ عليَّ صديقي جوان أن نزورَ شبّاناً من عين العرب - كوباني - يتسامرون في غرفةٍ بمدينة حلب الجامعيّة، حيث كنتُ طالباً زائراً، وذلك قبل اثنتي عشرة سنة.
وافقتُ على الفور، وسرعان ما ولجنا معاً غرفةً، رهطٌ هناك ينفثون دخانَ السجائر (كلُّ شبّان كوباني مدخّنون حسبما رأيتهم) واحدٌ في فانيلّة قصيرة يغنّي للمطربة السوريّة أسمهان، والبعض يردّدُ حسبَ هواه.
عندما استكانَ المغنّي، تعباً أو رغبة منه في الاهتمام بشأن آخر عملَت آلةُ التسجيل في الغرفة، فاستمعنا عندئذ إلى الموسيقى والأغنية النموذجيتين، وكانَ مفاجأةً لنا ألبومُ مجّو كندش (نازو): إحياء للتراث الموسيقي الكردي بآلاتٍ قليلةٍ حيّة، تؤلّفُ تختاً شرقيّاً خاصّاً، تعزفُ لصوت المؤدّي الموجِز المسافةَ ما بين السمع والفؤاد، إضافةً لتهذيب تنغيمه.
سمّارُ تلك الليلة غدوا من أعزّائي، وأصبحتُ واحداً منهم حين أقمتُ في حلب شهوراً مديدة داخلَ بيتٍ في حيّ السريان القديمة القريب من حيّ الأشرفية، وهم سيمون وممّو ومصطفى وملك. خارجَ مجموعة البيت هذه اختلطتُ كذلك بطلبة آخرين من كوباني (عين العرب) عفدال وأيوب وتيّار، وسواهم.

غنَّى لنا كي ننام
عودُ ممّو كان به صدعٌ واضح، وهو يعاني التهاباً مزمناً في الرئة، فيسعل كثيراً ويكتم سعاله. نطلبُ إليه أن يداومَ على العزف في ليالي الشتاء حتى ننام.
البيتُ قبوٌ رطبٌ بارد، وله نافذتان طويلتان كنّا نرى منهما الأجزاء السفليَّة من الأجسام المارّة فوق الرصيف، وتتهادى لآذاننا عبرهما الأحاديث المبتورةُ المقتضبة لعابرين قريبين منا في الغرفة، مجهولي الوجوه والأسماء.
بدايةً، يقسّمُ حسبَ ممّو مقاماتٍ أختارُها أنا في الغالب، ثمّ يأخذ بالعزف مع الغناء، وصلة أغنيات المطرب القتيل على يد عصابات صدام حسين أياز يوسف مثلاً، أو أغنية للسيدة التي كنا نجلّها أمّ كلثوم، إذ كانت عاطفتها الرصينة والمتأججة والمؤجلة لأحيان كثيرة، تتماشى ووطأة العواطف الراقدة في الفُرُش وتحت الأغطية. قلّما يعزفُ ألحانَه، ولكن كانت تستبدُّ به أحياناً حماسةٌ تجعله يغنّي لحنَه داخلَ ناقلةٍ عامّة.
أسلوب عزفه على العود يعتمدُ تقنيةَ الفُرْس في النقرات المتتابعة بلا فواصل، لكنّ ميلَه العاطفي يقرّبه إلى السنباطي المتأثّرِ مثله بالأسلوب الفارسي، إلّا أنّ ممّو يدعُ مع الوقت القصير الريشةَ الفارسيّة، ويستقرُّ في نمط العزف التركيّ، متأثّراً بعود الشريف محي الدين حيدر، وبعضُ ألحانه تتأثّر كذلك بـ "السانات" التركي، فمن الممكن للّحن ألّا ينتهي دون أن يفتر.
عرّفني ممّو بفتاة كوباني الشقراء، جين، جاءت حلب لتدرسَ الآداب الإنكليزية، وكان هو ومصطفى وملك سبقوها إلى ذلك بأعوام، فأصبحَ أستاذَها وعونَها في الموادّ العسيرة على المبتدئ.

تلميذةُ الكمان
أبدت جين شوقاً للعزف على الكمان، اتّفقَت وممّو على أن يلقّنها دروساً في تعلّم العزف، ما كنتُ أعرف بأنّه يُنطِقُ الكمان.
بعد أيّامٍ وقفَ فوق ناصية المدرّج الأكبر في الجامعة، حرّرَ الأوتارَ وقيّدها بعزفٍ منفرد أبهرَ جمهورَ الطلبة، لمعَ تلكَ الليلة حقّاً، وكانَ مظهرُه كذلك ملفتاً جذّاباً. لأسبابٍ لم أعلمها أخلّا باتفاقهما، فمضت جين تتعلّم في معهدٍ متخصّص.
شبّانُ كوباني بارزون معتدّون بأنفسهم ويُبدون حكمةً، ويبقون مبهمين فترةً طويلة أو إنّ غموضَهم ليزداد.

كفافيس في قلعة حلب
شربنا أنا وسيمون ألتاراً من الكولا مستلقيين في حرم شجرةٍ ما، ربّما نغنّي، فيما يتحرّكُ الطلبةُ في ممرّات النزل والساحات، يطوي مرفقَه بشكلٍ غريب، كسرٌ قديمٌ وهبَ هذا المفصلَ حريّةً إضافيّةً. هو يستمتعُ بذلك، أمامنا على الأقل.
الصباحُ باردٌ ماطر، خرجتُ وممّو، وكنّا في طريقنا - هو يعرفُ وأنا أجهل- إلى قلعة حلب.
جين وصديقتها أمينة، القادمة من عين العرب في زيارة، ستكونان برفقتنا.
أمينة، أمّها ماتت منذ وقتٍ قريب، أخبرتنا بذلك جين.
حقّاً حزينةً كانت للغاية، ممّو كان نشطاً ومرحاً، وكذلك جين وقد روت لنا قصصَ طفولتها الشقيّة وكيف كانت تكيدُ لأخوتها.
لم تكن لثّتي الملتهبة تساعدني، بيد أنّي عثرتُ في جيب معطفي النابليوني على قصيدتين لكافافيس، مدوّنتين فوق ورقتين مطويتين، وأتتني الفرصةُ عندما هبطَ الثلاثةُ داخلَ سجن القلعة، ومكثتُ على الأدراج العلويّة، فقرّرتُ أن أتلو لهم القصيدتين، وإن كانت ذاكرتي على صوابٍ فقد قرأتُ "جوادا أخيل" و "زهور بيضاء جميلة".

موسيقى في الظلام
داخلَ البيت يستمرُّ ممّو في السعال، يضعُ الريشةَ والعود جانباً ويهرولُ إلى الحمّام.
تقلّصت صلتُه بجين إثرَ أيّامٍ من رحلة القلعة لأسبابٍ ظلّت خفيّةً.
والدةُ مصطفى أصابها مرضٌ عضال، فانهارَ تقريباً، ونحن، لأجله ولأننا انكسرنا أيضاً في مضامير مختلفة، اكتأبنا.
ذات مرّةٍ، خلالَ تلك الأيام، أطفأنا الأنوارَ، وشاهدنا في شاشةِ كمبيوتر ملك حفلةَ محمد رضا شجريان في مهرجان فاس، برفقته العازفون كايهان كالهور وحسين عليزاده وهمايون شجريان، أصغينا جيّداً، وسلبتنا الأغاني، فقال مصطفى عنّي: إنّه المعلّم في الاستماع، انظروا إليه.

موسيقار وراء سكّة القطار
مضى شهرٌ على بدء محنة كوباني الدموية، رشيد الصوفي، موسيقارُ المدينة وباقي مدن الكرد في سوريا، نزحَ على مضض شمالاً وراءَ سكّة القطار - الحدّ الفاصل - كثيرون استفسروا عنه لأنّهم توقّعوا منه تهوّراً مسالماً.
قبلَ يومين، أرسلَ إليّ دلشاد مقطعاً مصوَّراً قديماً لأغنيةٍ أدّاها، داخلَ غرفة خاصّة، أحمدي جب عزفاً على آلةٍ وتريّةٍ صنعها لنفسه بفروقٍ عن باقي الوتريّات الشبيهة، ورشيد الصوفي ترنيماً بالأصابع على العود، وفيما مجموعةٌ من الشبّان تصفّق في إيقاعٍ، أو تُطرَبُ فتميلُ بالأعناق، يغنّي باران كندش وسيجارةٌ تحترق بين أصابعه.
كانت الأغنية حول رجلٍ يدعى (حَسّو)، وتتغنّى بحبّ كوباني القريبة من الخطّ، أي الحدود.
المساهمون