تمرّ اليوم الذكرى السادسة لنجاح الثورة التونسية وهرب المخلوع زين العابدين بن علي، وسط تساؤلات يطرحها التونسيون: ماذا تحقق من أحلامهم التي تداولوها سراً وعلناً في شارع الحبيب بورقيبة يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011؟ وماذا بقي من ذلك الشعار الذي حمله التونسيون في صدورهم على مدى عقود "تونس سويسرا العرب"؟ والأسئلة حول الحاضر والمستقبل تفيض، بانتظار أجوبة تطمئن التونسيين وترضي كامل آمالهم. يبحث كثيرون عن الإجابة في الشوارع الملتهبة هذه الأيام، في بنقردان ومدنين والمكناسي وسيدي بوزيد والقصرين. ويعتقد كثيرون أن الإجابة الصحيحة تكمن في قصر باردو، منبع السلطة في تونس ومولد دستورها الجديد، وفي صفحات الجرائد وصدى الإذاعات والبرامج الحوارية التلفزيونية التي تكرس مبدأ حرية التعبير. والبعض الآخر يجد الجواب في حوارات الأحزاب وتجاذباتها التي لا تنتهي، بما يعكس تألقاً ديمقراطياً لا مثيل له عربياً، وتأكيداً على حقيقة واضحة مثل الشمس: الديمقراطية التونسية صامدة بعد كل هذه السنوات وعلى الرغم من كل آلامها.
ومنذ ذلك اليوم المشهود، 14 يناير، قطع التونسيون طريقاً طويلة جداً لم تخل من مطبات وحواجز، كادت أن تعصف بالتجربة برمتها أحياناً. لكن التونسيين كتبوا دستوراً جديداً وانتخبوا من أرادوا وبدأوا في وضع مؤسسات تحمي الخيار الديمقراطي، على الرغم من الخلافات التي لا تنتهي حول التفاصيل. ولم يعد يفصلهم عن نهاية هذا البناء إلا المحكمة الدستورية وتنقيح القانون الانتخابي للتوافق حول الانتخابات البلدية، لوضع أسس الديمقراطية المحلية والانطلاق في طور جديد من الحياة في الجهات.
وفي ذكرى ثورتهم السادسة، سيتسمّر التونسيون هذا المساء أمام شاشاتهم كما تعودوا منذ أسابيع، لإنعاش ذاكرة البلاد وما عاشته من ظلم واضطهاد طيلة عقود، بعدما نجح مسار العدالة الانتقالية في إقناع الغالبية بجدواه. واطلع التونسيون وغيرهم على صفحات مظلمة ومجهولة من تاريخ القمع والتعذيب الذي طاول أجيالاً منهم منذ الاستقلال إلى اليوم، وألقى بكثيرين منهم في غياهب السجون والمنافي، وفتح الأعين على ما كان يحدث في دهاليز الدكتاتورية. وعلى الرغم من قساوة الشهادات ودموع الضحايا، فقد ضربوا مثالاً في التسامح والرقيّ، ولم تصدر عنهم وعن أمهاتهم دعوة انتقام واحدة، منتظرين أن يعترف الجلّاد بما اقترف، لتُطوى صفحة من تاريخ تونس.
نجاحات كثيرة وإنجازات كبيرة حققها التونسيون في هذه السنوات الست القليلة، ولكنها لا تخفي خيباتهم وفشلهم في نفس الوقت. ولعل ما يحدث في القصرين وبنقردان والمكناسي يبيّن بوضوح أن أحلاماً انكسرت، وأن آمالاً بحاجة إلى أن تُنعش من جديد. فقد فشلت كل حكومات ما بعد الثورة في إحداث فارق حقيقي في الجهات التونسية، بما يبقي على حلم الشباب في العمل يوماً ما، وفي تحسين الطريق إلى المدرسة البعيدة التي يقطع أطفال كيلومترات يومياً للذهاب إليها. ولم تبن مصانع ولا شُيّدت مشاريع في تلك الجهات البعيدة، على الرغم من كل الوعود، ومع أن أموالاً حقيقية رُصدت لإنجاز هذه المشاريع.
وتبقى المؤشرات الاقتصادية في انحدار مستمر. والمسؤولون ينبهون إلى الأسوأ. والإنتاج يتراجع على الرغم من آمال جديدة قد يحملها عام 2017، الذي تنبأ كثيرون بأنه سيكون الأصعب على التونسيين. وفي مشهد يتكرر منذ سنوات، توجه وفدان وزاريان إلى سيدي بوزيد وبنقردان، يوم الخميس، للتفاوض مع الأهالي. وزار الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، أمس الجمعة، قفصة، بما يؤكد أن الأوجاع الاجتماعية على حالها، وأن شعار الثورة "شغل، حرية، كرامة وطنية" لم يتحقق بالكامل، وبقي ينتظر تحولاً اقتصادياً حقيقياً يغيّر الأحوال ويعيد الأمل إلى الشباب وإلى المناطق المحرومة.
ولعل نجاح مؤتمر الاستثمار الذي عقد في تونس نهاية العام الماضي، أنعش بعض هذه الآمال. وسيبدأ تنفيذ بعض وعوده هذا العام، كما أكد الرئيس التونسي. لكن المواطنين في الوسط والشمال الغربي والجنوب بالخصوص، سئموا من الانتظار. وسيكون على الحكومة، برئاسة يوسف الشاهد، أن تتحرك بسرعة وأن تنجز شيئاً ما وفي وقت وجيز لتهدّئ من فورة الغضب وتعيد الأمل إلى هذه المناطق.
ومع أن الأجهزة الأمنية والعسكرية نجحت بنسبة كبيرة في تحسين الوضع الأمني، إلا أن الكشف عن مئات الخلايا الإرهابية وإيقاف آلاف من المنتمين لمجموعات إرهابية، أظهر أن هناك مشاكل عميقة تتهدد النسيج الاجتماعي التونسي. وتحول التونسيون في الخارج إلى مشتبه فيهم، خصوصاً بعد عمليتي نيس وبرلين، ومشاركة الكثير منهم في بؤر التوتر في العراق وسورية وليبيا. وهذه العوامل زادت من أوجاع البلاد بسبب تردي الصورة، وضرب السياحة، وتهديدات أوروبية بإيقاف الدعم عن تونس إذا لم تستجب لشروطها التي لا تعكس فهماً حقيقياً واقتناعاً بأن أمن أوروبا يبدأ أولاً من دعم التجربة التونسية بكل قوة والاستثمار فيها سريعاً، لأن الإحباط الاجتماعي والفقر وفقدان الأمل هي أسباب التطرف الأولى.
وعلى الرغم من كل هذا، تبقى التجربة صامدة، ويتمسك التونسيون بمكسب الحرية، وبسلمية تحركاتهم، أملاً في غد أفضل، واقتناعاً بأن خيار الديمقراطية سيحسّن الأحوال بالضرورة، حتى وإن طال الزمن.