سنان أنطون كشّاف الموت. هذا ما يمكن تبيانه من روايته "وحدها شجرة الرمان" التي حازت أخيراً ترجمته لها إلى الإنجليزية جائزة سيف غباش بانيبال (صدرت بعنوان "غاسل الجثث"). فإذا كان الموت قد بات لازمة اعتادها العراقيون في يومياتهم، فإن أنطون يسعى جاهداً إلى نفض هذا الموت أمام عيوننا، كمن ينفض شرشفاً ملتصقاً بجسمه.
هي حكاية جواد كاظم، الشاب العراقي، غاسل الموتى والفنان في آن معاً. شخصيةٌ عمل الكاتب على تركيبها بعناية، ومسرحتِها بأكثر من صوت ووظيفة وظل، حد الإنهاك. فهي شخصية مهمتها لا تقتصر على إيصال القارئ إلى السوسيولوجيا العراقية وأطيافها وصراعاتها وتعقيداتها وقلة حيلة الفرد فيها وحسب؛ بل إلى وضعه أيضاً على تماس متواصل مع الموت، الذي يصبح حدثاً، كما لو أن الجثث سعاة بريد، كل واحد منهم يضع القطعة في مكانها المناسب في أحجية الوجود الهائلة.
عبر دكان الغسل الذي يديره جواد بعد موت أبيه ووفاة أخيه "أمّوري" في حرب صدام الطويلة مع إيران، لن نخلص إلى إجابة ولن نستدل من إخفاقات الحب ومن ثم الفشل في مغادرة العراق، سوى على هذا التجاور القدري بين أحياء عراق القرن الواحد والعشرين وأشلاء أمواته.
جديلة من ثلاث قنوات تكوّن هيكل الرواية. فهناك السيرة الذاتية لـ"مغسلجي الحي"، وسير الموتى الذين يؤتى بهم إليه لغسلهم، ومن ثم الكوابيس الخاطفة والسريعة التي تحوّل موت هؤلاء "الغرباء" إلى شأن شخصي بجواد.
دكان المغسلجي زاوية لمّاحة لقراءة المشهد العراقي. فالموتى، مكتملي الجثث أو أشلاء، انعكاس لعراق ناتج عن حروب زُجّ به إليها منذ ثمانينيات القرن الماضي. عراق يستحضر أنطون إلى صورتهِ تاريخَه الأكثر قرباً، إلى ذاكرتنا، وشخصياتِه النافذة التي تعاقبت على حكمه، وتفجيراته اليومية وقسوة أجهزته الأمنية الداخلية.
ملامح هي أكثر صلة بأرشيف العراق ومواده الإخبارية. لذلك، فإن حضورها يجعل المخيلة الأدبية تُعفى من أي جهد، وتتنحى بعض الشيء، قبل أن ينتشلها الحدث الروائي المتخيّل مجدداً. فالأدب كينونة أكثر اتساعاً للسؤال.
هي آلية أنطون في البناء الدرامي وتكثيفه (كما في روايته "يا مريم" على الأقل). تثبيت المادة البحثية الفجة (التفاصيل التقنية والفقهية للغسل، والأدعية، والاختلافات لدى مذهبي السنة والشيعة، الفن التشكيلي والنحت والعمارة، سقوط بغداد وحروب صدّام السابقة...)، فوق نسيج المادة الحكائية. كولاج يجعل النص يتنفس هواءين في الوقت نفسه. هذا، ضمن مساحات ضئيلة مفرودة لكل شخصية. ليبقى الأفراد لصق عالمهم الحميم، والمُهدَّد. فالتفاصيلُ تغدو كينونة العراقي، وملاذه الوجودي وسط ضجة الموت.
في النسخة الإنجليزية من الرواية، التي عمل أنطون كمترجم ومؤلف فيها، يبدو السرد أكثر تملصاً من سطوة المادة الأرشيفية. ذلك أن الإنجليزية، بما تمثله من ذهنية وآلية لتفسير العالم، وربط الأشياء ببعضها، من شأنها أن تمثل حاضناً أكثر حيادية للحدث السياسي المتعارف عليه. كما لو أننا نحن نقرأ حدثاً توأماً لحدث نعرفه، إنما بذهنية راوٍ آخر.
رغم ذلك، فإن سنان أنطون يبرز في العمل مترجِماً أكثر منه كاتباً بالإنجليزية. هي ربما "أمانة" المترجم مقابل "إغراء" الكتابة المستبِد. فقارئ العمل باللغة العربية أولاً ومن ثم الإنجليزية، سيدرك أن ما أنجزه الكاتب هو ترجمة منحته جائزة، لكنها أيضاً استبطان لمحاولته إعادة كتابة العمل بكل الآلام والالتباسات التي يحتويها، والأسئلة واستعارات الموت ومجازه. مع التزام خطوط سردية متوازية والنص الأصلي، أغلب الأحيان. ليفكر بلغة ويكتب مترجِماً بلغة أخرى.
إنها النوافذ التي تتحدث عبرها اللغات الأخرى عنا. وسنان أنطون يطل على نفسه وعلى عِراقه عبر إحداها.