هي الطبيبة اللبنانيّة الأولى المتخصّصة في جراحة الأعصاب والدماغ. لا تعرف سَميّة أبي جوده كيف تقيّم الأمر، غير أنّها لا تنسى شعورها وقد وجدت نفسها امرأة وحيدة وسط زملائها الرجال خلال المؤتمر الأخير للجمعيّة العالميّة لجرّاحي الأعصاب والدماغ من أصل لبنانيّ.
"سحرني رقصهم". هي التي تعشق الفنون على اختلافها، جذبتها تلك "اللوحة الراقصة" في غرفة العمليّات في ذلك اليوم. كانت الدكتورة سَميّة أبي جوده حينها في عامها الدراسيّ الرابع، وكانت هي وزملاؤها في جولة بقسم الجراحة. هناك، في غرفة العمليّات، كان مريض يخضع لجراحة قلب مفتوح، وهناك "وضعونا في إحدى الزوايا وقد منعونا من لمس أيّ شيء بعدما حصّنونا بما يلزم من أردية. رحتُ أراقبهم وهم يتحرّكون. كان الأمر جدّ متّسق أشبه برقص أخّاذ، بعرض مسرحيّ يؤدّي كلّ واحد من الأبطال فيه دوره بإتقان. كنتُ مبهورة بالفعل".
هذا ما شعرت به الطبيبة الأولى المتخصّصة في جراحة الأعصاب والدماغ في لبنان، يوم دخلت للمرّة الأولى غرفة عمليّات. واليوم، كلّما دخلت إلى تلك الغرفة، سواء في لبنان أو في فرنسا، تجد نفسها وقد ارتفعت لديها نسبة الأدرينالين لتبلغ حدّها الأقصى. هي ما زالت تُبهَر وتغمرها الحماسة كلّما "واجهتُ تحدّياً جديداً وخضتُ مغامرة/ مجازفة جديدة".
قبل أيّام، حصلت أبي جوده على دبلوم دراسات متخصّصة في جراحة الأعصاب والدماغ من كليّة الطبّ والعلوم الطبيّة في جامعة الروح القدس - الكسليك، على أن تتبعها زميلة أخرى في المجال نفسه في العام المقبل من الجامعة الأميركيّة في بيروت. تجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة امرأتين جرّاحتين من أصول لبنانيّة في الولايات المتحدة الأميركيّة وفي أستراليا، لكنّهما لم تتابعا دراستَيهما في لبنان ولم تمارسا الطبّ هنا كذلك. بالتالي، تكون ابنة الواحدة والثلاثين المرأة الأولى المتخصّصة في هذا المجال في لبنان.
نسبة النساء المتخصصات في تلك الجراحة لا تتعدّى 12 في المائة في العالم عموماً، بحسب أبي جوده التي توضح أنّ اثنتَين منهنّ فقط تتوليان مراكز عليا (رئاسة قسم الجراحة)، واحدة في الولايات المتحدة الأميركيّة وواحدة في فرنسا. فهذا التخصّص هو من التخصّصات التي تأخّرت المرأة عنها. بالنسبة إليها "يعود ذلك إلى المتوارث في المجتمعات المختلفة حول العالم. هنا (في لبنان) مثلاً، أكثر التعليقات التي سمعتها: مَن يسلّم رأسه لامرأة؟!". وتؤكّد أنّ "التعليقات الذكوريّة التي سمعتها في فرنسا أسوأ من تلك التي سمعتها في لبنان. في عالم الطب، الأمر لا يرتبط بالمنطقة. هناك مثلاً، بعد دراسة لمدّة 30 عاماً، يطلقون النكات نفسها. ولأنّ قضيّة المرأة متقدّمة أكثر ممّا هي عليه هنا، يسمحون لأنفسهم بإطلاق النكات أكثر. وفي حين يبدو ثمّة تسامح ظاهر مع النكات، فإنّ الأمر ليس كذلك في الواقع".
خلال دراستها الطبّ العام التي تمتدّ سبعة أعوام في لبنان، كانت أبي جوده طليعة دفعتها وكانت تبحث عن تخصّص "حيويّ". وعندما دخلت إلى غرفة العمليّات مع أستاذها المشرف الدكتور جورج نهرا، "أدركتُ كم هو جميل أن نشقّ رأس أحدهم ويبقى على قيد الحياة، ويبقى قادراً على الحركة والتفكير. هذا أمر خلّاب سحريّ". واتّخذت قرارها: "أريد القيام بذلك". وهي كانت "في الأساس مهتمّة جداً بعلم التشريح العصبيّ. الدماغ شيء آخر. يسحرني كيف أنّ مجرّد ناقلات عصبيّة متّصلة ببعضها بعضاً ونبضات كهربائيّة وكيمياء تجعلنا ما نحن عليه". لا تعلم إذا كانت "هذه الفكرة الساحرة هي الدافع وراء رغبتي في الاستكشاف، تُضاف إليها رغبة في التصرّف وفي الإتيان بعمل ما يجعلني أشعر بأنّني تمكّنتُ من تحقيق تغيير مباشر، إذ لا ننتظر طويلاً قبل لمس النتائج. لكنّنا قد لا نلمس أيّ نتيجة. فهذا التخصّص جاحد في الوقت نفسه، إذ إنّ المضاعفات خلال العمل الجراحيّ قد تكون جدّ بالغة".
قبل أن تتوجّه أبي جوده إلى فرنسا لاستكمال تخصّصها، كان في رصيدها 590 عمليّة جراحيّة. وخلال العام المنصرم، أضافت إليها 200 جراحة على أن يزيد ذلك الرصيد بحلول نهاية هذا العام 200 أخرى، فتكون قد لامست أو تخطّت حدّ ألف عمليّة. فخورة هي، لكنّها لا ترى ذلك كافياً وبالتالي "لن أعود حالياً إلى لبنان. لديّ هاجس إتقان ما أقوم به، لذا فأنا لا أرغب في العودة وأنا في مستوى وسط، بمعنى ألا يكون لديّ ما أضيفه إلى تخصّصي. أن أكون بمستوى وسط لا يتناسب مع مفهوم الطبّ، من وجهة نظري. إمّا أن نكون ممتازين في ما نقوم به أو نتّجه إلى أمر آخر، لا سيّما في تخصّصات الجراحة". ولأنّ أبي جوده تدرك أنّ "مخاطر الأمر كبيرة، فإنّ ستّة أعوام من التخصّص لن تكفيني. أريد الذهاب أبعد من ذلك. ثمّة مسؤوليّة كبرى ملقاة على عاتقنا".
خلال العام الجاري، تنهي أبي جوده تخصّصاً ثانوياً في أورام الأعصاب والدماغ، لتبدأ آخر في العام المقبل وهو جراحة الأوعية الدمويّة. لكنّها لن تتوقّف هنا، "فأنا أحبّ التدريس كثيراً. اكتشفتُ ذلك عندما كنتُ لا أزال طالبة، وطلب منّي الدكتور نهرا القيام بذلك في حضوره. اكتشفتُ حينها أنّ التعامل مع الطلاب أمر في غاية الروعة. ولأنّني فضوليّة، تمكّنتُ من تزويدهم بإضافات من خارج المنهاج، لا سيّما أنّهم إمّا في عامهم الدراسيّ الأوّل أو الثاني. لذا وبالتوازي مع التعمّق في الممارسة، لا بدّ لي من استكمال المسار الأكاديميّ. وهو ما يستوجب وقف الممارسة لعام واحد، حتى أتمكّن من الإعداد لشهادة ماجستير في الأبحاث الجينيّة في مختبرات مستشفى بيتييه سالبيتريير الجامعي في باريس (Pitié - Salpêtrière) حيث أنا اليوم".
"بعد عامَين، في نهاية المطاف، هدفي هو العودة إلى لبنان. لستُ أدري إن كان الأمر انطلاقاً من حسّ ولاء وامتنان لجامعتي وللمستشفى حيث بدأتُ ممارستي الطبيّة، لكنّ تشجيع عميد الكليّة البروفسور جان كلود لحود يجعلني أشعر بأنّني أستطيع العودة والقيام بتغيير ما، أو على أقلّ تقدير أن أكون عضواً فعّالاً في المجال".
هل التحدّي الأكبر الذي تواجهينه يعود إلى كونك المرأة الوحيدة في المجال؟ تجيب أبي جوده: "لهذا لا أجرؤ على العودة في الوقت الحالي. إلى جانب سعيي إلى الإتقان والكمال، فأنا عازمة على التقدّم أكثر في تخصّصي إذا كنتُ قادرة على ذلك. لا أجرؤ على العودة مع خبرتي الحاليّة، لأنّ ثمّة خوفاً جماعيّاً لدى النساء في كلّ المجالات. إذا تقدّمتُ إلى وظيفة وقدراتي هي نفسها قدرات زميل رجل، فإنّه هو الذي يحصل عليها. لذا عليّ أن أكون في وضعيّة أفضل ومع خبرة أكبر".
وتأمل أبي جوده أن "تتفوّق الكفاءة على واقع أنّني امرأة. بعض المرضى يقولون إنّ المرأة تنصت أكثر إليهم وتخصّص لهم وقتاً أطول. نحن ببساطة نسمع غير ما يسمعه زملاؤنا الرجال. عندما يخبرنا المرضى أمراً ما، نسمع كذلك ما لا يتفوّهون به. وفي الأمر مزيّة لا سيّما أنّ جراحة الأعصاب دقيقة جداً. يقولون لنا إنّها ليست جراحة للنساء.. لكنّها في الواقع جراحة النساء".
لا تنكر أبي جوده أنّ "الطبّ الذي نمنحه أعواماً من عمرنا، لا يعيد تلك الأعوام إلينا. يسرق منّا الكثير، فنفوّت الكثير.. مراحل من حياة العائلة وغيرها. من جهتي، توقّفتُ كذلك عن الكتابة مثلاً". لكنّها سرعان ما تستدرك قائلة: "ما نقوم به جميل.. جميل جداً. الجراحة فنّ بالتأكيد، وقد كنت محظوظة إذ عملتُ مع فنّانين كبار".