اكتسب الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948 خصوصيّة كبيرة باعتباره المكان الأوّل في جُغرافيا الصراع العربي الصهيوني. وفي سياقه، كان الانفعال الطبيعيّ بفلسطين، وفي فلسطين، صادماً وشاملاً ومحمولاً على جميع وسائل الاشتباك، من السلاح الحيّ إلى الكتابةِ الحيّة. بهذا المعنى، ارتبطت تجربة سميح القاسم، من بداياتها، ارتباطاً حميماً بمشهديّة المكان. وكان الشاعر إذ تغرّبت أرضه فجأة، وتغرّب أهلوه تباعاً، يمنح، مع جمهرة من زملائه الكتاب والمثقفين، الفلسطينيين بطاقة وجودهم في أرضهم، بمنطقٍ يقع في سؤال الهُويّة من جهة، وأدوار المثقف من جهة ثانية.
ولعلّ صاحب "الموت الكبير" (1972)، الذي حظيَ بهالة كبيرة من الضوء، والشهرة الواسعة، كان مشغولاً بِتعريب الزمن؛ واثقاً بعُروبيّة المطالع، ما جعل قصيدته تنسحب إلى هذه المناطق، أو تتبلوّر فيها، بكامل خطابتها، وإنشادها، وشِعاراتها. في حين عمّقت قصائد قليلة أخرى فنيّتها، بنظرة إنسانيّة أكثر التفاتاً إلى هدأة الداخل منها إلى ضجيج الخارج: "أشدُّ من الماء حزناً /تغرّبت في دهشةِ الموتِ عن هذه اليابسهْ/ أشدُّ من الماء حزناً/ وأعتى من الريحِ توقاً إلى لحظةٍ ناعسهْ/ وحيداً، ومزدحماً بالملايينِ، خلف شبابيكها الدامسهْ".
إلا أنّ الالتباس الذي تولّده حالة القاسم، لا سيّما في خضمّ الحداثة العربية، وتسارع حركتها، واتسّاع الفجوة بين الأيديلوجيّ الهجين، والثقافيّ المجرّد؛ التباسٌ كبير يصل إلى درجة وضع الشِعر كلّه على المحكّ، مفهوماً، ونتاجاً، في وقتٍ تكثر فيه الأصوات الداعية إلى خلاص الكاتبة من حُمولاتها الماضويّة. وهنا، تعود الأسئلة المطروحة حول نتاج صاحب "ديوان الحماسة" وكأنها أسئلة اليوم والغد، المبُرّرة في سياق الأثر، والقيمة.
على المقلب الآخر، وبين "سقوط الأقنعة" (1969) و"سأخرج من صورتي ذات يوم" (2000)، نجد تلك العناوين الكبرى لحالة الارتهان المزدوج للواقع العربيّ. فبين الأنظمة الحاكمة أو المتحكّمة، والاحتلال ونقائضه في الحالة الجمعيّة، والحالة الفرديّة، ثمّة سلسلة كبيرة من السنوات التي توالت الأقنعة فيها بالسُقوط، وتراكمت عبرها صور النكوصِ والرتابةِ والأمل. وعليها يظلّ الشاعر واقفاً، مُحرّضاً: "تقدّموا، تقدّموا"، في حين يكتب قريباً من موته "هواجس لطقوس الأحفاد" (2012)، و"كولاج 3" (2012).
إلى أين يذهب شعر المقاومة، إذاً، في مشهد كهذا؟ وفي أي سياق تاريخي يمكن أن تقرأ العناوين الفلسطينيّة اليوم؟ وأيّ معنى تكريمي تمنحه القضيّة المستندة إلى الماضي، والمفتوحة على المستقبل، لرموزها، التي علتْ فأعلتها في جرحها العام؟
يرحل سميح القاسم؛ تاركاً لنا تلك الحكاية الشعرية المترجمة "أولاد في حملة خلاص"، لبيرتولد بريشت، ورسائله، ومحادثاته الشخصيّة جداً مع رفيقه محمود درويش. يرحل سميح القاسم، كأنّه ماهرٌ في إزاحة الموت. يرحل وهو يتنقل بين العروبيّ والمحلّي والأممي. يرحل وهو يجسر بين الشخصيّ والعام باللغة والغضبِ والحيرة.
* شاعر من فلسطين