سلمان الزموري: سحر هافانا الخافت

28 مايو 2015
من صور المعرض
+ الخط -

 الفضاءات مجرد جغرافيا تحتضن الكائن وتمنحه هويات وبطاقات تعريف. كما أنها لا تقابل الحيز المكاني الذي تحيل إليه كلمة وطن، الذي له عَلَم خاص ولغة تواصل قومية وتوافقات منظمة تحددها الدساتير والقوانين المتوافق في شأنها. الأمر أوسع من هذا التقابل بكثير، إنها تحيل إلى معنى عامّ، يكاد يكون فضفاضاً وشاملاً وحَمَّال أوجه، على اعتبار أن المكان يظل مجرد عنصر من عناصر الفضاء اللّامتناهي.

الفضاء، بالشكل الذي تمثله الآداب والفنون هو - إضافة إلى كل ما سبق - مرآة عاكسة لأحاسيس الناس، ومجال رحب لتناقضاتهم ولرغباتهم وفعلهم اليومي في الحياة. إنه العلامة البارزة على سيرورة يتفاعل من خلالها وعبرها الإنسان مع العالم المحيط، بما يخلق هوية مخصوصة، حتى داخل المجتمع الواحد.


بهذا المعنى، الذي يكاد يلامس طموح التأويل الفلسفي والجمالي، يقترح الفنان الفوتوغرافي المغربي سلمان الزموري (مواليد مدينة تطوان 1959، يقيم في مدينة أيدا الهولندية) أعماله الفوتوغرافية، في معرضه "هافانا: المدينة والناس"، الذي يحتضنه "رواق محمد الفاسي" في العاصمة المغربية الرباط، ويستمر حتى 30 مايو/ أيار الجاري.

في معرض الزموري، يحضر الفضاء، فضاء هافانا، باعتباره مقترحاً جمالياً توثيقياً، يتعقب إيقاع وتفاصيل الحياة اليومية داخل المدينة الكوبية المضطربة، الرومانسية، الفريدة، الحالمة والملونة. فضاء ظلّ على امتداد أكثر من نصف قرن يقاوم من خلال ساكنته؛ التي تُركت في عزلة تامة تواجه مصيرها الغامض والخاضع للأهواء السياسية الصارمة.  

تحضر هفانا، في معرض الزموري، حاملة معها ذلك الزخم، الذي تعكسه التفاصيل اليومية للناس، للأواني والروائح والأفضية، باعتبارها معطيات حياتية تتجاوز جحيم القسوة والمعاناة وقلة ذات اليد. أمكنة وشوارع وأسواق وأرصفة، كلها علامات تضرب جذورها في أعماق الزمن، وتحكي عن بقايا التاريخ الجميل القريب، الذي كانت فيه كل هذه المقاطع الجمالية تغري المشاهدة، وتستقطب فضول الغرباء المقبلين على فتنتها والساعين إلى عمقها الإنساني المختلف.

تحكي صور الزموري عن ذلك السحر الخافت، الذي تقدمه الأبنية العتيقة المرممة بلمسة بدائية ومتقشفة، إلى جانب وجوه الناس مختلفي الألوان، الذين مازالوا يرددون مقاطع من تلك الأناشيد الثورية الحماسية، التي كانت تعبئ مشاعر البسطاء وتُدَوْزِن أحاسيس المقهورين.

في هافانا، وغيرها من المدن الكوبية المكلومة؛ التي تبدو كمقاطع سردية مستخرجة من إحدى روايات ماركيز، ما زالت ترانيم تشي غيفارا تصدح من الشرفات والنوافذ، كما في الشوارع والأزقة والجادات، تارة بأصوات مفردة وأخرى بإيقاعات جماعية، تشبه أناشيد الجنائز وخشوع طقوس القداس الديني.


وعلى الرغم من سطوة حجم هذا الألم، الذي لا تخطئه عين المشاهد لصور الزموري، إلا أنه يقدم صوراً مفعمة بالحياة، مغايرة تعاكس وتناقض ما يجود به الواقع، من فقر وحصار للحريات، وتقييد للرغبات الفردية والجماعية على السواء.

في هذه الأرض، كما في الصور، يبدو الناس ساعين إلى تناول الحياة بشراهة كبيرة وبحب يتجاوز الواقع؛ ليقترب من إبدالات التمني والطموح الحالم. إنها صور مغايرة عن تلك التي رسّخها الإعلام الغربي.

على هذا الأساس، سعى الزموري، من خلال أعماله الفوتوغرافية، إلى سبر أغوار مدينة هافانا، عبر التقاط مظاهر الجميل والمختلف والحميمي. كما راهن على تعقب جمال وقبح وجوه القاطنين والعابرين من أزقتها وجادّاتها، بكثير من الجهد والإصرار على معاكسة ما تقدمه حياتهم العادية. إنها صور حكايات تضمر أكثر مما تبوح، وتفضل الصمت أكثر من انخراط شخوصها في حالة من الشكوى والبكاء. وتلك إحدى خصال شعب كوبا، الذي يسرد لنا الفنان نبذة مصورة عن حياته اليومية البسيطة.
المساهمون