سلام عمر: سلطة الحروب على العمران

19 أكتوبر 2014
من أعمال المعرض
+ الخط -

لم تُستَنفد الحرب بعد. هذا ما يقوله لنا الفنان العراقي سلام عمر في معرضه Missing، أو "في عداد المفقودين"، المختتم أمس في "غاليري أجيال". عناصر الحكاية والمواد التشكيلية ليست بغداد، أو أية مدينة عراقية أخرى، بل بيروت؛ المدينة التي اعتاد الإقامة فيها، والتي بَحَثَها في أعمال سابقة منذ أكثر من عشر سنوات.

اليوم، يبدو عمر أكثر إلماماً بأصوات مقاتليها الذين باتوا "سرّيين"، وبتاريخها وهيكلها الحربيّين. إنه يفتش في الطبقة "الأندرغراوند" من ذاكرتها، ولا يكتفي بالوقوف عند الحدود البصرية والشكلية للحرب وتبعاتها التراجيدية. بالنسبة إليه، ثمة مفاهيم ينبغي استنطاقها، ولعِبٌ يصرُّ على خوضه.

نقرأ المدينة في أعمال عُمر كوحدات غير متجانسة، أقرب إلى شظايا، مسننة وحادة، متداخلة في طبقات، لا تتعادل في الوزن ولا الشكل ولا الطول، لا تتناغم فيما بينها إلا على مستوى مكوّنها. فحين تعمل كلها معاً، تؤلف صورة لمدينة أو جزءاً من صورة. إنها "نيغاتيف"، لا للصورة المفقودة، بل للغياب الذي ظل موجوداً، ولم يبرح مكانه منذ أيام الحرب.

يتلاعب عمر بالسطح البصري. يؤلف نظاماً خادعاً، متصلاً فقط عند مستوى محدد، لكنه في العموم مفكك. ليس هناك ما يربط أجزاءه ببعضها إلا الكينونة التي وجد على أساسها، أو بكل بساطة: الحكاية. إنه كولاج معكوس، إذا جاز القول. استحضار لصورة متكاملة من نثار. كأنما رجوع إلى الأرشيف، أو إيغال فيه، مع إيلاء الاهتمام لقِدمه وكلّ الغبار الذي هبط فوقه. لوحاته استنباطٌ لفصول من الذاكرة بضربات ريشة متيبسة.

نحن إزاء طبقتين من الخراب. واحدة تاريخية/ أرشيفية، وأخرى تشكيلية/ جمالية. بالتشكيل، يستنطق سلام عمر الخراب العمراني ويضعه في سياق ناطق، رمزي، أنثروبولوجي وسياسي، بحيث لا يعود الخراب الأول وحيداً. وهو في هذا الإطار، يولي اهتماماً خاصاً بالألوان الباهتة وبقايا الأمكنة (زجاج، خشب، زينكو، إسمنت)، ليبدو كمن يغمر المشهد بالشظايا.

لن يكون في إمكاننا أن نستحوذ على الصورة في أعماله إلا إذا وقفنا في نقطة معينة أمامها. كأن الجمود/ ثبات الحركة، الذي يوحي بثبات الزمن، هو الشرط الذي تستولده هذا الأعمال.

إنْ تحركنا قليلاً، تبعثر المشهد وفقدنا اتصالنا بالصورة. كما لو أننا عين القناص. هذه العلاقة بين القناص وضحاياه، والتي تتطلب تواجد الضحية في منتصف العدسة، يعيد إنتاجها فنياً كعلاقة بين المُشاهد والعمل الفني الذي لن يكون مكتملاً وواضحاً، إلا بوقوف الأول بزاوية معينة قبالته.

في أحد أعماله، ينتج الفنان ما صنعه قناص يوماً: حائطاً بسبع طبقات، وثقبين منحرفين عن بعضهما، بحيث يتاح له ترصّد ضحيتين في نفس الوقت. أما الضحية، فسيستحيل عليها رؤية قنّاصها العالي.

لكن، ماذا يعني أن يشتغل فنان عراقي على موضوعة الحرب بيروتياً؟ هل لأن الحرب تزيل الفوارق الاجتماعية والعمرانية بين المدن؟ أو لأن الغياب هو السمة التي تتشابه في كل الحالات؟ أم لأن الحرب تفرض واقعاً عمرانياً جديداً في كل مرة، يعيد المسلحون صوغه، بما يكرّس القتل والفقد والغياب، وبالتالي"الربح"؟

مهما يكن، إنها سلطة الحروب على العمران. وهذه السلطة لا تُغَيِّب فقط أشخاصاً وتبرز آخرين، أو تؤسس فقط لأركيولوجيا جديدة، بل تزحف أيضاً إلى محترف الفنان وتفرض مفاهيماً وبحثاً وأدوات جديدة؛ ما يجعلنا نولي أهمية للهوية التجريبية للوحاته ومجسماته.

سلام عمر نحات أيضاً. له باع في تطويع المواد المختلفة في أعماله، والتلاعب بالمساحات والفضاء. وهو ما يرفع من رمزية موضوعه، ويحيله على ذاكرته الشخصية العراقية. إنه يردم الهوة الزمنية بين قصص بيروت الخاصة وأية مدينة أخرى تنوء تحت الحرب.

دلالات
المساهمون