لا شكّ أن التدخل العسكري الروسي في سورية منذ 30 سبتمبر/ أيلول من العام الماضي، قلب إلى حدّ بعيد موازين القوى لصالح قوات النظام السوري، ومكّنها بفضل الغطاء الجوي المكثّف من تحقيق نجاحات عدة في أنحاء مختلفة من البلاد، بعد أن وصلت تلك القوات إلى مرحلة من الإنهاك بسبب الضغط العسكري لقوات المعارضة في كل الجبهات.
وتأتي أهمية تدخل الطيران الحربي الروسي، من كونه جاء في ظل الإنهاك الذي طاول سلاح الجو السوري، الذي تقوم طائراته منذ سنوات بعشرات الطلعات الجوية يومياً، في مختلف أنحاء البلاد، من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها. وأغلبها طائرات قديمة، سقط العشرات منها حتى الآن خلال المعارك مع قوات المعارضة، بينما يفتقد بعضها الآخر لقطع الغيار الضرورية، لكونها لم تعد مستخدمة في روسيا، المصدر الأصلي لهذه الطائرات.
كما يعاني سلاح الجو السوري من تناقص مخزون وقود الطائرات المستورد، وانشقاق معظم الضباط المهندسين الفنيين المكلفين فحص الطائرات وإجراء الصيانة لها. وعلى الرغم من ذلك، تشير مصادر عسكرية إلى أن "سلاح الجو السوري ما زال قادراً على تنفيذ 100 طلعة جوية مؤثرة في اليوم، بما فيها طائرات الشحن والحوامات والطائرات الحربية". أما روسيا التي كانت طائراتها تنشط بكثافة في الأشهر الأولى من التدخل العسكري في سورية، فمن الملاحظ أنها باتت في الأسابيع الأخيرة تُقنّن طلعات طيرانها، وتربط مهامه على نحو أكثر وضوحاً بأجندتها السياسية. ولا تؤمّن الغطاء الجوي إلا للمعارك التي تقترحها هي، أو يتم التنسيق معها بشأنها مسبقاً، كما عبّر عن ذلك بوضوح أحد النواب الروس بقوله للنظام في دمشق: "سلاح الجو الروسي ليس موظّفاً عندكم".
وقد مكّن الغطاء الجوي الروسي المكثف والعنيف قوات النظام السوري، المدعومة بمليشيات أجنبية، من تحقيق ما عجزت عنه طيلة السنوات الأربع الماضية بريف حلب الشمالي، من خلال الوصول إلى بلدتي نبل والزهراء مطلع العام الحالي، واللتين كانت تحاصرهما قوات المعارضة منذ بداية الثورة السورية.
كما استطاعت تلك القوات في منتصف شهر مارس/ آذار الماضي، من استعادة مدينة تدمر، شرقي محافظة حمص، بفضل الغطاء الجوي الروسي، الذي وفّر عشرات الطلعات الجوية في اليوم الواحد، وجعل تمسّك عناصر تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) بمواقعهم المكشوفة صعباً للغاية.
كما أدى سلاح الجو الروسي دوراً بارزاً في تمكين قوات النظام نهاية العام الماضي من استعادة معظم المناطق التي استولت عليها قوات المعارضة في محافظة اللاذقية، التي تعمل الأخيرة هذه الأيام على استعادتها مجدداً، مستفيدة من تراخي الطلعات الجوية الروسية، ومن طبيعة الأرض الجبلية الوعرة التي توفر لمقاتليها ملاذات آمنة، ومن اتساع نطاق الهجمات التي تقوم بها على كامل جبلي التركمان والأكراد في ريف اللاذقية الشمالي الشرقي. وما ساعد مقاتلي المعارضة في اللاذقية أيضاً، هو انشغال روسيا بجبهات أخرى، في تدمر وأثريا وريف حلب الجنوبي.
وإذا تم تركيز القصف في منطقة معينة، فسوف يتيح الأمر لفصائل المعارضة الاستفادة من غياب الطيران، للتقدم بسرعة في مناطق أخرى مشتعلة اليوم، مثل جبهة الملاح وطريق الكاستيلو في ريف حلب الشمالي، والحاضر في ريفها الجنوبي، فضلاً عن أن غياب الطيران الروسي عن مؤازرة مليشيا "صقور الصحراء" في أثريا، سيزيد من خسائرها، بعدما ألحق بها "داعش" هزيمة كبيرة شرقي أثريا على طريق الطبقة. وتبعد منطقة أثريا عن مدينة الطبقة بريف الرقة الجنوبي حوالي 70 كيلومتراً، وهي بغالبيتها مساحات صحراوية تخلو من أي مناطق مأهولة، باستثناء بعض التجمعات السكنية الصغيرة.
في هذا السياق، يقول مدير "المرصد السوري لحقوق الإنسان" رامي عبد الرحمن، إن "انسحاب قوات النظام من الطبقة يثبت مجدداً أنه لا يمكن مواجهة داعش والتقدم داخل معاقله في سورية بغياب الغطاء الجوي، تحديداً في المناطق الصحراوية المكشوفة".
كما يؤكد مصدر عسكري من المعارضة السورية لـ"العربي الجديد"، أن "هذا التنسيق بين جيش الفتح في حلب وغرفة عمليات معركة اليرموك في اللاذقية شتّت القدرات الجوية الروسية، وأسهم في تخفيض عدد الغارات إلى النصف تقريباً". ويضيف المصدر أنه "لا يمكن فصل المعركتين في ريف حلب الجنوبي وجبال اللاذقية، فكلاهما تحملان رسائل تركية إلى روسيا بالتوازي مع جهود استعادة العلاقات بين الجانبين، إذ تسعى تركيا لتثبيت وقائع جديدة على الأرض، قبل بدء التشاور والتنسيق مع روسيا سياسياً وعلى الأرض، كما هو متوقع خلال المرحلة المقبلة".
من جهته، يرى الخبير الاستراتيجي، العميد أحمد رحال، أن "روسيا حاولت مراراً إيصال رسالة لمن يهمه الأمر، بأنها لا تعمل موظفاً عند بشار الأسد أو إيران، وسعت لتبليغ تلك الرسالة خلال اجتماع وزراء الدفاع الثلاثي في طهران الشهر الماضي، لكن إيران رفضت تلقي أوامر من روسيا، وهو ما أدى إلى فشل ذلك الاجتماع".
ويضيف رحال، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "بعد ذلك جاء وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى دمشق، مبلغاً الأسد بوضوح أن أي عمليات لا تتم بموافقة غرفة العمليات في قاعدة حميميم، التي تديرها روسيا، لن تحظى بغطاء جوي روسي. وهو ما حدث فعلاً في السابق في معارك الرقة وحلب وطريق الكاستيلو".
ويشير إلى أن "الأجندتين الروسية والإيرانية غير متطابقتين، إذ تحبّذ طهران الخيار العسكري لحسم الصراع في سورية لصالح نظام الأسد، بينما لدى موسكو مقاربة سياسية معيّنة توظف قدراتها العسكرية لدعمها وإنجاحها، وتقوم على عدم السماح بسقوط النظام عسكرياً حتى يتم إنجاز تسوية سياسية".
ويرى متابعون أن "التعقيدات والتحالفات السياسية والميدانية بدأت تحدّ من فاعلية سلاح الجو الروسي. وتبرز هنا على سبيل المثال معركة حلب التي تستنزف قوات النظام والمليشيات المساندة لها، كما تستنزف حزب الله الذي تكبّد خسائر كبيرة هناك في الأسابيع الأخيرة، ما تسبب في خلافات ومشاحنات بين تلك القوى وصلت إلى حدّ الاشتباك المسلّح".
وهذه الخلافات والتعقيدات، دفعت الروس للإعلان عن عدم وجود نية لدى النظام السوري للسيطرة على حلب كرسالة غير مباشرة للنظام، بأن الدعم الروسي سيكون محدوداً إن لم يغيّر النظام خططه، وذلك بالرغم من تصريحات الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، قبل أيام بأن معركة حلب استراتيجية، وأنه سوف يحشد لها المزيد من القوات".
وقد استبعد السفير الروسي في دمشق ألكسندر كينشتشاك، أن يهاجم جيش النظام كل من حلب والرقة في القريب العاجل، في رسالة غير مباشرة للنظام بأن التغطية الروسية قد لا تكون متوافرة إلا للدفاع عن النفس وليس لدعم عمليات هجومية.
وفي كل حال، لا بد من الإشارة إلى أن القصف الجوي الروسي ليس دائماً "احترافياً"، وكثيراً ما يوقع خسائر كبيرة في صفوف المدنيين، خصوصاً مع بدء استخدام الطائرات الروسية أخيراً، قنابل فوسفورية وحرارية في غاراتها بحلب وريفها، ما أوقع مئات القتلى والمصابين من المدنيين.
وبحسب تقارير غربية، فإن روسيا استخدمت أسلحة فتّاكة إشعاعية وفوسفورية، في قصفها المكثف على ريف حلب والمدينة طيلة الشهر الماضي بمعدل زاد عن 300 غارة، وهو ما يعتبر، بحسب هذه التقارير، القصف الأعنف الذي تشهده معارك خلال العقود الأخيرة.