سكتة دماغية

07 فبراير 2017

(Getty)

+ الخط -
"سكتة دماغية".. لا مجال للخطأ، فقد انتزع الأطباء عشرات العيّنات من الجثة الهامدة أمامهم، علّهم يظفرون بنتيجة مغايرة لسبب الوفاة، من دون جدوى، غير أن أحدًا منهم لم يكن يجرؤ على توقيع التقرير الطبي، خوفا من الرئيس.
هي حالة طبية لا سابقة لها، في هذا البلد العربي الذي يسكن على هامش الخريطة، أن يموت مواطن بـ"سكتة دماغية"، فقد درجت العادة أن تكون الأسباب أبعد ما تكون عن ذلك، وغالبيتها، بالطبع، الموت جوعًا، أو ضربًا، أو دهسًا، أو قهرًا، أو نتيجة رصاصة "غير طائشة" على الإطلاق، لكن "سكتةً دماغية"، فهذا مما يندرج في باب "الخوارق" المضادة لطبيعة المواطن العربي، وتركيبته التي رباه عليها الرئيس، ومنظومته القمعية.
عمومًا، لم يعد في وسع الأطباء التستر على "المصيبة" أزيد من ذلك، خصوصًا، وهم يدركون جيدًا، عواقب مثل هذا التزوير الذي يمسّ "أمن الدولة" ذاتها، فما كان أمامهم مناص، في خاتمة المطاف، غبر التوقيع على تقرير الوفاة، مع وضع خط عريض تحت سببها "السكتة الدماغية". هذا إضافة إلى توقيعاتٍ موازية على وصاياهم الشخصية التي سارعوا إلى إعدادها، خشية القادم من مصائب قد تطول حياتهم ذاتها.
ووفق البروتوكول الذي فرضه الرئيس، كان لا بد من رفع التقرير إلى مديرية المخابرات العامة التي عليها أن تعرف سبب الوفاة، مثلما تعرف سبب الحياة، لأن ذلك يدخل في صلب عملها، خصوصًا أنها الجهة المعنية بتفاصيل المواطن العربي، من لحظة الميلاد، إلى زمن ما بعد القبر بكثير.
انتقلت "الصدمة" إلى مديرية المخابرات، واهتزّت أركانها، حين اطلعت على سبب الوفاة "السكتة الدماغية"، وبدأت الاجتماعات العاجلة لجنرالات القمع؛ والتي دارت حول محور واحد: أيّ مواطن هذا الذي أفلت بـ"دماغه" طوال هذا الوقت، على الرغم من كل العمليات "الجراحية" التي تجري على مدار الثانية لاستئصال الأدمغة الشعبية، فأن يسكت دماغٌ معناه أنه كان قادرًا على الحديث قبل سكوته، وربما على "التفكير" أيضًا، يا للفجيعة التي من شأنها إطاحة منظومة الدائرة الأمنية كلها التي عملت، عقوداً، على تغييب الأدمغة، حتى أوصلت المواطن إلى قناعةٍ مفادها أن الدماغ ليس جزءًا من الرأس العربي، غير أن الأهم من ذلك كله، بالنسبة لهم، هو الخشية من وصول التقرير إلى مكتب الرئيس الذي لا يعلم غير الشيطان وحده حجم ردود أفعاله، حين يقرأ سبب الوفاة: "السكتة الدماغية"، يا للهول.
أيضًا، كمن يكتب وصيته الأخيرة، اضطر أقطاب المديرية الغامضة إلى التوقيع على التقرير، ورفعه إلى الرئيس.
في القصر، كذلك، تكرّر الزلزال الذي أحدثه التقرير، واستبدّت بالرئيس حالة من الغضب الهستيري، وهو يلوبُ من غرفةٍ إلى أخرى، لمعرفة سبب هذه "المصيبة" التي وقعت على "دماغه" الذي كان يعيش سكينةً بالغة، وحالة من الركود الطوعي، بعد أن اطمأن إلى مخرجات حكمه التي لم يكن منها "الدماغ" على الإطلاق، وهو ما يعني أن السابقة باتت ممكنة التكرار، وأن هناك أدمغة "تعمل" في هذا البلد.
كان عليه أن يتخذ قراراتٍ عاجلة لاحتواء الكارثة، قبل أن يستفحل أمرها. وبالطبع، تبدأ المعالجة بإسكات جميع من اطلع على التقرير، أولاً، فهو لا يضمن تسرّب النبأ إلى الشعب، وهكذا بدأت سلسلة الاغتيالات التي شملت جنرالات القصر، والمخابرات، والأطباء الموقعين على التقرير، حتى أتى على آخرهم.
أما الخطوة الثانية التي اتخذها الرئيس، فتمثلت بضرورة مصادرة هذا الدماغ "الساكت"، وحفظه في القصر، لضمان القضاء على "الوباء" قبل انتشاره، فأمر باستئصال الدماغ ووضعه في إناء زجاجيّ على مكتبه، ليذكّره، دومًا، بضرورة القضاء على الأدمغة كلها.
لم تمض أيام بعد ذلك، حتى بدأ الرئيس يهذي، جرّاء تحديقه المتواصل في الدماغ الماثل أمامه، ويُقال، أيضًا، إن الزعيم استيقظ فزعًا من نومه، ذات يوم، وخرج يركض من القصر، عاريًا، بحثًا عن مكانٍ خال من الأدمغة.. فوجد نفسه يتجه، بلا وعي، إلى مصح الأمراض العقلية.
دلالات
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.