رحل سعيد صالح بعد صراع مع المرض، آخذاً معه الكثير من الحكايات والأحداث التي لم يتمكّن من روايتها، أو ربما روى بعضها ولم يجرؤ أحد على نشرها.
ظلّ المواطن ابن حي السيدة زينب في القاهرة، وابن الموظف البسيط، الذي عشق الفن وكان نجماً من نجوم المسرح المدرسي والجامعي، يعبر عن رأيه بحرية، يتعامل مع الأمور وفق ما يراه صحيحاً، لا يهادن ولا ينافق، يتعامل مع الأوضاع بشجاعة وحكمة و"جدعنة" أولاد البلد.
ربما هو أحد أكثر نجوم جيله موهبة، لكن صراحته المتناهية كانت دائماً سبباً في منعه من الوصول إلى ما يستحقّه من نجوميّة، رغم أنّ آخرين، أقلّ منه موهبة، صاروا نجوماً كباراً.
في بداية الثمانينيات من القرن الماضي أنشأ سعيد صالح فرقة مسرحية، كان همّها الأساسي المسرح السياسي الذي كان رائجاً في مصر في عقود ماضية، وتوارى شيئاً فشيئاً، وفي مسرحيته "لعبة اسمها الفلوس" عام 1983 خرج عن النص، ليقول: "أمي اتجوزت 3 مرات. الأول أكّلنا المشّ، والتانى علّمنا الغشّ، والتالت لا بيهشّ ولا بينشّ"، وكان يقصد بالأزواج الثلاثة لأمّه رؤساء مصر الثلاثة جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، على التوالي.
عندها انتفض النظام الحاكم ضدّ الفنّان الموهوب، واعتبروا ما قاله إهانة للرئيس الذي كان في بداية مسيرته في الحكم، وتمّت محاكمة صالح، وحُكم عليه بالسجن ستة أشهر بتهمة إهانة رئيس الجمهورية.
منذ تلك الواقعة بات سعيد صالح فناناً مارقاً، يتعامل معه النظام باعتباره معارضاً، ويتحيّن الفرص لمعاقبته، خصوصاً أنّه لم يتوقّف بعد سجنه عن إعلان مواقفه السياسية ومعارضته لما تفعله الدولة وأجهزتها في البلاد والعباد.
القضية الثانية التي عوقب بسببها سعيد صالح كانت قضيّة مخدّرات، هو لم ينكر إطلاقاً أنّه يتعاطى المخدّرات، كثيرون من جيله كانوا يفعلون ذلك، الرئيس أنور السادات نفسه كان يُعرف عنه تعاطيه الحشيش، وكثير من الفنانين المصريين يتعاطونه حتى الآن...
بعدها تمّت مطاردته مرتين، بتهم لها علاقة بتعاطي الحشيش، بُرّئ في الأولى وسُجن عاماً في الثانية، لكنّ العجيب في مطاردة سعيد صالح مرّتين بسبب تعاطيه الحشيش أنّ فنّاناً بحجمه وشهرته لا يمكن بحال القبض عليه ومحاكمته بهذه السهولة دون قرار من جهات عليا.
القانون في مصر لا يطبّق على المشاهير. فنانون أصغر كثيراً وأقلّ شهرة من سعيد صالح تمّت التغطية على قضايا كبيرة تورطوا فيها، ولم يُعرف عنها أية تفاصيل. حدث هذا كثيراً، ويحدث الآن وسيحدث لاحقاً.
تحدّث الفنّان الراحل كثيراً عن قضيتي المخدرات في أيامه الأخيرة، كان دائماً يردّد أنّه مظلوم، وأنّ تعاطي المخدرات ليس السبب الحقيقي لسجنه، خصوصاً أنّه، حسب قوله عدّة مرّات، كان يحصل على المخدرات من شخصيات رسمية نافذة بالأساس، بعضها قيادات أمنية.
حين قامت الثورة في مصر ضد مبارك في 2011، كان سعيد صالح مريضاً منهكاً بسبب مرض القلب الذي تفاقم بفعل السنّ. قال لمقربين منه وأعلن في وسائل الإعلام أنّه مع الثورة وشبابها، وتمنّى لو أنه يستطيع مشاركتهم في ميدان التحرير.
ومن بين ما سمعته من سعيد صالح في آخر مرة قابلته فيها، كان تأكيده أنّه سجن ظلماً، وأن "مبارك سجنني لأن لساني طويل" على حد قوله، وأن النظام لو قرر معاقبة نصف الفنانين الذين يتعاطون المخدرات "مش هيلاقوا فنانين في مصر أصلاً".
وأتذكّر سعيد صالح يتحدث بفخر عن حياته في السجن، الذي قضى فيه عاماً بتهمة تعاطي المخدرات. لعلي استشعرت في حديثه حنيناً لتلك الأيام، يقول إنها أكثر أيام حياته صراحة ووضوحاً، وأنه في السجن قابل أفضل الناس، بعيداً عن الكذابين والمنافقين الذين عاش بينهم عمره كله.
كان الفنان الكوميدي الكبير معتزاً بنفسه، يرفض أن يصنّف كأراجوز في بلاط الحاكم، أو حضرة من يدفع، بعكس آخرين باتوا ملء السمع والبصر، لمجرد أنّهم تحولوا إلى مهرجين للحكام، أبرزهم رفيق دربه عادل إمام.
المقارنة بين سعيد صالح وعادل إمام بالأساس تصب دوماً في مصلحة الأول، سعيد موهوب متدفّق تلقائي، بينما عادل ذكي حريص على المصلحة ويعرف طريقه إلى السلطة وأصحاب المال، في المشهد الوحيد الذي ظهر فيه سعيد صالح في فيلم عادل إمام الأخير "زهايمر"، كان هذا التميّز واضحاً لكلّ من يدرك الفارق بين الفنان الحقيقي، والفنان المصطنع.. سرق سعيد الكاميرا ببراعة شديدة من نجم الفيلم، قدّم دوراً بسيطاً قصيراً، لكنّه صعب يحتاج إلى ممثل متمكّن من أدواته، لا يمكنك عند تذكّر الفيلم أن تتجاهل المشهد البديع لهذا الممثل العظيم، الذي قدّم أكثر من ألف عمل فنّي في المسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة.
رحم الله سعيد صالح.