طيلة هذه الأشهر، كانت النصائح الغربيّة للحريري ولمختلف قوى الرابع عشر من آذار، تُلخَّص بالدعوة إلى تشكيل حكومة مع حزب الله. أكثر العبارات وضوحاً سمعها الراحل محمد شطح من السفير الأميركي ديفيد هيل: "اتركوا حزب الله يُقاتل في سوريا. لماذا تُريدون أن تُحركوا وكر الدبابير".
اقتنع شطح بأن هناك ضرورة لتعديل الخطاب السياسي الموجّه للغرب. أراد فصل الملف اللبناني عن السوري وتشكيل حكومة من فريق 14 آذار. في الجوهر، كان شطح يُريد أن يرى إلى أي مدى يُمكن لحزب الله أن يصل. هل يُمكن له إسقاط الحكومة عسكرياً؟
اغتيل شطح قبل أيام من نهاية العام 2013. صرخ الرئيس فؤاد السنيورة خلال دفن شطح: "ما قبل اغتيال شطح ليس كما بعده". وأعلن السنيورة المقاومة المدنية آنذاك. وهذه كانت فكرة شطح نفسه. مقاومة مدنية "لمشروع حزب الله في لبنان"، أو بعبارة أخرى "مقاومة مدنية لتحرير لبنان من حزب الله" كما ردد مراراً.
فهم الحريري الأمر بشكلٍ مختلف، هكذا يقول عدد من المسؤولين في قوى 14 آذار متهكّمين. بعد أيّام من اغتيال المستشار الأقرب إلى الحريري، والرجل الذي كان يتولّى التواصل مع الغرب ويرسم السياسات الاستراتيجية، قام الحريري بسلسلة من الخطوات بعكس استشارات شطح. وهنا يتساءل مسؤول في 14 آذار: هل تذكّر أحدهم ذكرى أربعين شطح؟".
فجأة، ومن دون مقدمات سياسيّة، قام الحريري بسلسلة من التنازلات بهدف تشكيل حكومة مع حزب الله، من دون أن ينسحب الأخير من سوريا. وافقت معظم مكونات قوى 14 آذار على المشاركة في الحكومة المفترضة، ما عدا القوات اللبنانيّة. الموافقة على المشاركة لا تعني الاقتناع بهذه الخطوة، هذا ما يقوله سياسيّون في قوى 14 آذار، ممن سيشاركون في الحكومة. باختصار، إنهم لا يُريدون أن يكونوا خارج سرب الحكومة. يُريدون الاستفادة من كلّ تقديماتها. كما أن مسيحيّي 14 آذار يُريدون أن يستفيدوا من غياب القوات اللبنانيّة ليحصلوا على حصّة لم يكونوا ليحصلوا عليها لو شاركت "القوات".
لكن ما الذي دفع الحريري إلى هذه الخطوة؟ تؤكّد مصادر مختلف أطراف 14 آذار، ومن بينها تيار المستقبل، أن لا ضغوط استثنائيّة من السعوديّة أو الغرب باتجاه تشكيل الحكومة. لم يتغيّر مستوى الضغوط منذ تكليف تمام سلام مهمّة التأليف. كانت الرغبة السعوديّة تقضي بألا يكون عدنان منصور وزيراً للخارجيّة عند افتتاح مؤتمر جنيف 2، لكنه مثّل لبنان في النهاية، ومرّ الأمر. إذاً، لا بد من استبعاد العامل الخارجي.
يقول أحد الذين تواصلوا مع الحريري، في الفترة الأخيرة، إنه مصرّ على أمرين: الأول أن تشكيل الحكومة سيؤدي إلى وقف العمليات الانتحارية، أو على الأقل الحدّ منها، وهو يؤمن بأن وجود سنّي قوي في الحكومة هو الأقدر على مواجهة هذه الظاهرة. فالحريري، بحسب ما يُنقل عنه، يعتقد أن ظاهرة الانتحاريين ستؤثر سلباً عليه في الدرجة الأولى. الأمر الثاني، هو أن الحريري لا يُريد الوصول إلى مرحلة انتخاب رئيس جمهورية بحكومة يرأسها نجيب ميقاتي، وخصوصاً أن احتمالات الفراغ الرئاسي تزيد. لم يقبل الحريري تولي ميقاتي رئاسة الحكومة بدلاً منه، وخصوصاً أن ميقاتي وصل إلى المجلس النيابي من خلال لائحة الحريري، وبأصوات مناصريه، بحسب اقتناع الحريري. من هنا، تحمّس الحريري لفكرة تأليف الحكومة وتقديم التنازلات، "وهو تصرّف كرجل أعمال يُريد إنهاء هذه الصفقة بأي سعر لأنه يراها مهمّة له".
ويُضيف المعترضون على خيارات الحريري، أنه أنقذ حزب الله في لحظة بدء أعمال المحكمة الدولية، وأعطاه غطاءً، ولو بالحد الأدنى، لمشاركته في القتال إلى جانب النظام السوري.
في المقابل، يقول بعض المسؤولين في تيار المستقبل، إن الحريري يُطبّق سياسة "إلحق الكذاب إلى باب الدار". فالرجل يُدرك أن حزب الله لا يُريد تشكيل الحكومة، لذلك، فهو يُقدّم الكثير من التنازلات لإحراج الحزب محلياً وإقليمياً.
يشير أحد خفيفي الظلّ في قوى 14 آذار، إلى أن الحريري تعاطى في الأسابيع الستة الأخيرة في ملف الحكومة، كما أدار تيّاره السياسي خلال السنوات التسع الأخيرة، أي منذ اغتيال والده؛ فبعد اغتيال الحريري الأب، قرر نجله سعد تحويل الحالة الشعبية والشبابية التي التفّت حول والده، عبر جمعيات وأندية رياضية ومؤسسات اجتماعية، إلى حزب سياسي. أسس الحريري حزبه بشكل متسرّع. هو ليس حزباً بالمعنى الحديث للكلمة، بل تجمّع سياسي يفتقر إلى الديموقراطية الداخلية والرؤية السياسية الواضحة. تجمُّعٌ يحتاج لتدخل مباشر من الحريري للاستمرار.
يُعدّد ناشطون في 14 آذار أخطاء الحريري بحق نفسه وحزبه في هذه السنوات التسع، وهم مذهولون "كيف أن هناك مَن يُصوّت للحريري في أي انتخابات نيابيّة. فالحريري صدّق في مرحلة معينة أنه قادر على بناء مجموعات أمنية تحميه من حزب الله. دفع عشرات الملايين من الدولارات، ثم انهار كل شيء في يوم واحد على يد حزب الله في مايو/ أيار 2008. كما أن الجسم الحزبي في المناطق معطّل، كونه اعتاد على الحاجة إلى التمويل الكبير، وأن الأمور تُحلّ مع الحريري مباشرة، فيما هو خارج لبنان منذ سبتمبر/ أيلول 2011 "لأسباب أمنية"، كما يقول. وبالتالي تزايدت الخلافات داخل هذا الجسم، بحيث باتت معظم قياداته في المناطق بحكم المستقيلة أو المعتكفة.
حوّل الحريري المنظومة الإعلامية التي ورثها عن والده، من إعلام منوَّع، إلى إعلام اشبه بالإعلام الحربي. ففي عهد الحريري الأب، كان يمكن إيصال الرسالة السياسية المطلوبة بسلاسة من خلال إعلام "المستقبل"، هذا إلى جانب أنها كانت وسائل إعلامية رابحة مالياً. اليوم، باتت خاسرة مالياً، وموجَّهة سياسيّاً بشكل لم يعد يُتابعها إلا المناصرين الحزبيين.
سياسياً، أوصل الحريري إلى مجلس النواب شخصيات تسعى إلى تكوين حيثيات خاصة بها، مثل خالد الضاهر ومحمد كبارة وفؤاد السنيورة ونهاد المشنوق. كما أبعد عن نفسه أقرب مستشاري والده، مثل بهيج طبارة ومحسن دلول وآخرين. كما لم يستطع الحريري الحفاظ على العلاقة المميزة التي جمعته بالنائب وليد جنبلاط، ولا استطاع إبقاء الرئيس نجيب ميقاتي تحت رايته، وفشل في الحفاظ على العلاقة مع مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني، الذي بات خصماً شرساً للحريري، بعدما كان في خط الدفاع الأول عنه لدرجة أنه كان يُسمّى "مفتي المستقبل". كما فشل الحريري في الحفاظ على مؤسسات الرعاية الاجتماعيّة التي بناها والده، إذ أغلق عدداً كبيراً من المستوصفات والمراكز الاجتماعيّة أو قلّص خدماتها بشكلٍ كبير.
وتبقى السقطة السياسية الأبرز للحريري، في رأي مؤيديه قبل خصومه، زيارته الرئيس السوري بشار الأسد عام 2009، والمبيت في قصره، بدل الفندق، وتبرئته من اغتيال أبيه، في مقابل تشكيل حكومة أسقطها حلفاء الأسد بعد وقت ليس بطويل. فهل إن الحريري يُكرر الخطأ نفسه اليوم، من أجل العودة إلى الحكومة، وإنْ ليس بشخصه؟