*عشت في مدن ومناطق مختلفة من العالم ؛ فلسطين، بيروت، عمان، الولايات المتحدة الأميركية وغيرها، وفي لحظات تحولات جذرية: أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وفترة النضال العربي الطلابي في الجامعة الأميركية ببيروت، فضلًا عن الانتفاضتين الأولى والثانية، ومن ثم مرحلة اتفاق أوسلو، هذا من جهة. ومن جهة أخرى قلتِ في مستهلّ حديثنا، عند التطرّق إلى موضوع الهوية، إنك "اكتشفت فلسطينيتك" في عمر السادسة عشرة. هذه الأمور أو الوقائع المشتبكة كانت بمثابة أرضية نشأتك. ألك أن تحدثينا عن نشأتك؟
كان لوالدي دور كبير في تشجيعي ودعمي دائماً، فقد كان يسارياً وأممياً. أمّا والدتي، فقد كانت امرأة ذات شخصيّة قويّة، لا تهاب شيئًا، ساهم هذا "المزيج" إن شئتِ في تكوين شخصيتي. إلا أن المرة الأولى التي تولّد لدي وعي أنني فلسطينية، كانت بعد النكسة بعام، في 1968. كنت وقتها طالبة في مدرسة حكومية، وكانت المدرسة تسأل عن جنسيات الطلاب، وحين حان دوري وقفت وقلت: أنا فلسطينية.
وحين ذهبت من أجل الدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت، نشبت الحرب الأهلية بعد فترة، وهنا تطوّر وعي آخر، إن جاز القول، في هويتي الفلسطينية. صحيح أنني لم أكن ناشطة سياسية، إذ كنت أركز بشكل رئيس على دراستي، لكنني ذهبت ودرّست اللغة الإنجليزية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت، وترك ذلك أثرا مهمًا في حياتي.
لم أكن ناشطة كما خبرتك، إلا أن شقيقتي عنان كانت ناشطة سياسية معروفة، وعشت من خلالها أجواء تلك المرحلة؛ فقد كان المناخ الدراسي عامّة في الجامعة الأميركية وفي بيروت بالذات، استثنائياً. كل اليسار العربي كان في الجامعة الأميركية. وهذا ما جعل وعيي بهويتي العربية قويًا. وإذ كانت هناك أعداد كبيرة من العرب ضمن صفوف منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، فقد تفتّح وعيي السياسي والاجتماعي والفكري في بيروت، خصوصاً أنني كنت قادمة من عمّان التي كانت في الستينيات من القرن المنصرم مدينة على الهامش، لو صحّ التعبير.
اقرأ أيضًا: خالد السلطاني الهوية ليست نظرة للماضي
* في حديثك عن الحرب الأهلية في بيروت، تطرقت إلى تأثيرها الشديد فيك، هل لك أن تستفيضي؟
لقد كانت تجربة الحرب الأهلية في بيروت مرعبة ومخيفة. كنت الفلسطينية الوحيدة في صفّي. كان معظم الطلاب لبنانيين.
وفي داخل الصفّ نفسه، كان ثمة صراعات سياسية وثقافية مع اليمينيين. كان الصف إذن بمثابة صورة مصغرة عن المدينة التي انقسمت إلى: شرقية وغربية. هكذا، لم يعد الطلاب الذين يعيشون في "بيروت الشرقية" يتمكنون من القدوم إلى الصف.
وأتذكر أن عودتنا نحن الطلاب إلى مساكننا، صارت متعذرة بسبب القصف، مما اضطرنا إلى النوم في مكاتب الأساتذة. ومع مرور الوقت وسوء الأوضاع، لم يبقَ من طلاب الصف إلا خمسة. هاجر معظم الطلاب. وفي ظلّ أجواء مماثلة، اضطررت بدوري إلى مغادرة بيروت. مكثت في عمّان فترة ريثما "هدأت" الأمور لتسمح لي بالعودة مجددًا لبيروت من أجل التخرّج. التجربة برمّتها علمتني أشياء كثيرة، ربمّا من أهمها ما تعلّمته من اللبنانيين أنفسهم: القدرة على التعايش مع الحرب.
* درست في الجامعة الأميركية ببيروت، هندسة العمارة. لم اخترتِ العمارة؟
لعلّ مردّ ذلك إلى تأثير والدتي. فقد كانت امرأة قوية جداً. أوّل امرأة أعمال في الأردن. أسست مطبعة وامتلكتها. أمي من عائلة جبري التي كانت تمتلك واحدًا من أجل البيوت في دمشق القديمة؛ بيت جبري. عشنا هناك في الشام القديمة. سحرتني دمشق، سحرني عالمها، سحرني البيت الشامي. إن كانت العين أدّت دورًا في توجهي نحو العمارة، فإن الأذن أدّت دورًا أيضًا؛ إذ كان والدي يحدثنا باستمرار عن بيته في يافا، عن كل تفاصيله. كان البيت في المنشية، على البحر. كلّ تلك الصور شكّلت نماذج في مخيلتي. فمن جهة؛ كان هناك غياب لبيت، ومن جهة أخرى كان هناك حضور لبيت ومدينة وأم. لذلك أقول إنني أصبحت معمارية، لأنني كنت أرسم خرائط ومجسّمات عن عمارة من ذاكرة أبي اليافاوية وبيوت أهل والدتي الشامية.
اقرأ أيضًا: ناصر الرباط
* قررت زيارة فلسطين للمرة الأولى في الثمانينيات ومن ثم الاستقرار فيها. كيف، ولماذا؟
بعد العودة من الولايات المتحدة الأميركية، درّست في كلية هندسة العمارة في الجامعة الأردنية حتى عام 1981. وفي تلك السنة قررت أنني أريد أن أدرس وأحضر أطروحة دكتوراه عن العمارة التقليدية بالذات. فكّرت، وقلت لنفسي لماذا لا أجري بحثي عن فلسطين؟. لم يكن قد بقي أي أقارب لنا في فلسطين. كان لأبي عائلة في يافا، إلا أن أفرادها ماتوا جميعًا. أتذكر كيف كنا في ما مضى، نذهب إلى بوابة مندلباوم لنقابلهم. كانوا يجيئون، وهم يحملون السمك والخواتم، لا أدري لماذا. أمّا نحن، فنحمل لهم فناجين قهوة. كانت تجربة حزينة جداً، لأن أبي كان يبكي طوال الوقت وأمي كذلك.
طلبت من أحد الأصدقاء عام 1981 أن يستصدر لي تصريح زيارة. لم أكن أعرف أحدًا، فكتب لي أحد الأصدقاء أسماء أشخاص، كان من بينهم حنان عشراوي وسليم تماري. وصلت إلى القدس وكل ما كنت أعرفه هو محل زلاطيمو! استأجرت سيارة (كان لون لوحة ترخيص السيارة أصفر ولم أعرف يومها أهميّة الموضوع) وذهبت إلى القرى، وكلما نزلت من السيارة يقول الناس لي: شالوم (كانوا يظنّون أنّني إسرائيلية بسبب لوحة ترخيص السيارة). ذهبت إلى يافا وحيفا ودرت في فلسطين. ووقعت في غرام فلسطين، والتقطت الكثير من الصور. لدي أرشيف كامل من تلك الفترة. ذهبت إلى جامعة بيرزيت واستفسرت عن إمكانية الحصول على وظيفة، وكانوا وقتها بصدد استحداث قسم للعمارة، ولاحت فرصة أن أدّرس هناك. هكذا حصلت على عقد وتصريح بالعمل.
اقرأ أيضًا : عبرة من بوابة البيمارستان النوري
* بعد وصولك إلى فلسطين ووقوعك في غرامها، اضطررت لمغادرتها عام 1982، لماذا؟
حدثت مجزرة صبرا وشاتيلا. أذكر ذلك اليوم جيدًا كنت في السيارة أستمع إلى الأخبار. ومرت بعدها أيام لم نسمع تقريبًا أي شيء عما يحدث. كانت أياماً قاسية. كنت، كما ذكرت أدرّس في جامعة بيرزيت وأعيش في رام الله. وقرر الإسرائيليون بعد المجزرة بأن على كل المدرسين "الأجانب" في الجامعة التوقيع على وثيقة ضدّ منظمة التحرير الفلسطينية. ومن لا يوقع سيتم طرده. تركت فلسطين تحاشياً للتوقيع ولكي لا أطرد، على أمل أن أتمكن من العودة، ومن ثم بدأت دراسة الدكتوراه في اسكتلندا. كنت قد تعرفت إلى سليم تماري في رام الله وقررنا الزواج. وعندما عدت معه إلى فلسطين، قامت الجندية على الحدود بتمزيق تصريح دخولي. فدخل سليم إلى رام الله وأنا عدت إلى عمّان. كانت مأساة بالنسبة لنا. لم يوافق الإسرائيليون على لمّ الشمل، ورفعنا قضية عند محامي وكنا ننتظر وننتظر.
*ذكرت أنك عدت إلى فلسطين ومن ثم بقيت فيها لأربع سنوات بشكل غير قانوني، إلى أن حصلت على موافقة بعدما دخلت إلى الحاكم العسكري ومعك حقيبة وضعت فيها أغراضك وقلت له إنك منذ أربع سنوات في فلسطين بشكل غير قانوني وتنتظرين الحصول على إقامة لم الشمل، فإما أن يضعك في السجن أو أن يعطيك أوراقك، ولسخرية القدر كان لك ما أردت، فسافرت إلى أدنبره لمناقشة أطروحة الدكتوراه. على ماذا ركز بحثك، الذي أدّى دورًا لاحقًا في تأسيس مركز "رواق"؟
المثير في البحث كان التقسيم الجندري، أي وفقًا للجنس، وانعكاسه على العمارة. فقد كانت النسوة الفلاحات أكثر انكشافًا على الرجال واختلاطًا بهم بسبب ظروف العمل والحياة التي تفرض هذا الاختلاط. كذا راح التصميم المعماري لبيوت الفلاحين يعكس هذا "الانفتاح".
بينما كانت نساء عائلات "الملتزمين"، أكثر محافظة. فلا يختلطن بنساء الفلاحين ولا بالرجال طبعًا. وكان في البناء المعماري لبيوت هؤلاء فصل "جندري" أكبر داخل البيوت ذاتها. وكان حوش البناء مكشوفًا أقل على الزائر، على عكس بيوت الفلاحين، التي كانت تفرض ظروف العمل فيها، أن يبنى الحوش بطريقة مفتوحة أكثر. كما تبيّن لي أثناء البحث أن للمشايخ علاقة مركبة ومتراكبة في ما بينها. ومن ثم درست علاقتها بمدينة نابلس، وعلاقة نابلس بدمشق، ودمشق بإسطنبول.
* قلت لي إن المصادفة أدّت دورًا أساسيًا في قرارتك المصيرية. أكان تأسيس مركز "رواق" نتيجة واحدة من تلك المصادفات؟
في عام 1991، وعند بدء الحرب، (حرب الخليج الأولى) قام الإسرائيليون بوضعنا جميعًا تحت منع التجول. وكنت أشعر بالغضب. وراودتني فكرة إنشاء مركز يكون مسؤولاً عن ترميم المباني الأثرية والقديمة في فلسطين وتسجيلها أصولًا، وخاصة أن الأوقاف الإسلامية والمسيحية تعتني بممتلكاتها في الغالب فحسب، وبذا تبقى كثير من البيوت الخاصة أو حتى الساحات العامة من دون أدنى اهتمام، ومهددة على الدوام بالهدم والفناء. بدأتُ تحت الحصار بكتابة مسوّدة مشروع لمؤسسة، وفي فترات رفع حظر التجول، كنت ألتقي بأصدقاء مطلعين في هذا المجال، وأشاركهم أفكاري. في البداية استأجرنا بناية، وبصراحة كان لدينا وقتها كثير من التخبط، لأن رؤيتنا لم تكن واضحة. لكن سرعان ما تمكّنا من تحديد مراحل مختلفة للعمل. أولًا استعنا بعدد كبير من طلاب الهندسة المعمارية في كليات جامعات رام الله ونابلس والخليل وبيت لحم وغزة وغيرها. وقمنا، لمدة 12 عامًا بتشغيل هؤلاء، بحيث نقسمهم إلى مجموعات صغيرة؛ في كلّ مجموعة توجد امرأة، وكلّ مجموعة مسؤولة عن منطقة، وعليها التوجه إلى بيوت الناس وتسجيل كل شيء فيها من نوع البلاط، إلى تقسيم البيت، إلى نوع الحجر، إلى نوع النقوش، فضلًا عن توثيق ذلك كلّه بالتصوير، ورسم خارطة معمارية للبيت ومساقطه، أي باختصار إجراء مسح شامل للبيت والحديقة والمنطقة المحيطة. كوّن هذا لدينا سجلاً عاماً، مفتوحاً للجميع، لمنطقة جنوب فلسطين بشكل خاص، حيث ركزنا عملنا هناك، لأن تعقيدات كثيرة حالت دون عملنا في المناطق الأخرى.
* ولكن عملكم في "رواق" لا يقتصر على التوثيق والسجل الضخم الذي تمكنتم من جمعه، بل قمتم بمشاريع ترميم مبانٍ قديمة في أكثر من مائة قرية فلسطينية. كيف تم الانتقال من التوثيق البسيط إلى هذه المرحلة؟
قررنا بعد مرحلة التوثيق، البدء بترميم البيوت الفارغة، كي نعيد "توطين" مؤسسات تعمل في خدمة المصلحة العامة. سواء أكانت معاهد موسيقية أم جمعيات نسائية وغيرها. اشترطنا على أصحاب البيوت شرطًا وحيدًا؛ السماح لإحدى الجمعيات المحلية بالسكن في البيت لمدة 10 أو 15 سنة بحسب الاتفاق الذي يبرمه الطرفان من دون أن نتدخل. في المقابل نتكفّل نحن بشكل كامل بترميم المكان وتجهيزه من جديد والمحافظة عليه، ومدّ شبكة خدمات له؛ من كهرباء وماء وكل ما يحتاجه المبنى. واشترطنا أن تكون الأيدي العاملة من المنطقة التي يتم فيها الترميم. وأخذنا على عاتقنا تدريب أيدٍ عاملة جديدة في حال كانت تلك المنطقة تعاني من نقص فيها. وإن لم يكن ثمة عدد كاف، فإننا نأخذ على عاتقنا تعليمهم المهنة وهكذا. كما حددنا حداً أدنى من الأجر للعمال، يدفعه المتعهدون للعمال والعاملات. وقررنا التركيز على القرى، لأن الاهتمام يكون عامة منصبًا على المدن لا القرى. اكتشفنا أنه يمكننا العمل بطريقة أبسط، كأن نقوم بترميم بيوت خاصة في البلدة القديمة، شريطة أن يدفع صاحب البيت نصف التكاليف، على ألا تتعدى تكاليف الترميم حداً أقصى معيناً. وفي حال كان الوضع المادي لصاحب البيت متواضعاً ولا يمكنه دفع النصف الثاني من التكاليف، فيمكن أن يقوم بالدفع عن طريق العمل، أي أن يبني أو يدهن هو أو قريب له تحت إشرافنا.
اقرأ أيضًا: سليم تماري، سير المغمورين تكشف النسيج الاجتماعي لفلسطين
* كم تبلغ ميزانية المركز السنوية؟ ومن أين يحصل على التمويل؟ وما دورك اليوم، حيث تركت إدارته منذ أربع سنوات؟
ما زلتُ أقدم الاستشارة للمركز، كما أساعد في الحصول الأموال. لكني ومنذ البداية، أي منذ أن قمت بتأسيس "رواق"، آمنت وما زلت أن علي التفكير بمن سيأتي من بعدي لإدارة المركز، إضافة إلى ضرورة أن يكون هناك شخصان مسؤولان عنه وليس شخص واحد يأخذ جميع القرارات المصيرية. تصل ميزانية المركز السنوية إلى ملايين الدولارات وهو مؤسسة غير ربحية. قمنا حتى الآن بترميم مبانٍ قديمة بشكل كامل في أكثر من خمس عشرة قرية من أصل خمسين قررنا أن نرممها بشكل كامل. بعض هذه القرى تتضمن مئات المباني القديمة. يعمل في المركز بشكل ثابت خمسة عشر شخصًا أغلبهم من المهندسات النساء. كما يجب أن يكون واحد من الشخصين في إدارة المركز على الأقل امرأة. ناهيك طبعًا عن العمال والأشخاص الذين يعملون معنا بشكل مستمر في المشاريع المختلفة. تطوّر عملنا بطريق مختلفة، حيث لم نعد نعمل على ترميم المباني والمساكن الأثرية أو القديمة فحسب، بل صرنا نعتمد على البناء بصورة ذكية تراعي البيئة وأسلوب البناء التراثي. وغيرها من المشاريع.
* بدأت الكتابة الإبداعية عن طريق المصادفة. وإلى الآن أصدرت أربعة كتب، أغلبها مترجم إلى اللغة العربية، وآخرها كان كتاب "غولدا نامت هنا" الذي ترجمه إلى اللغة العربية أيمن حداد، وصدر عن دار بلومزبيري قطر. ولقي الكتاب اهتمامًا ملحوظًا في عدة صحف أجنبية. أولاً لماذا تصدر كتبك دائماً بالإيطالية أولًا، وما قصة هذا الكتاب؟
أنا أكتب باللغة الإنجليزية، لكني متعاقدة مع دار نشر إيطالية، وبقيت معهم منذ إصدار كتابي الأول، لأنهم آمنوا بي منذ كتابي الأوّل "شارون وحماتي". أما كتاب "غولدا نامت هنا"، فهو عبارة عن مقابلات أجريتها مع أفراد أربع عائلات فلسطينية في القدس وأملاكهم المصادرة تحت ما عرف باسم "قانون أملاك الغائبين". حاولت في هذا الكتاب الذهاب إلى الصدمة Trauma التي يعيشها الفلسطيني ومعنى فقدان البيت على الصعيد الشخصي. وإذا أخذت أهلي الذين تهجّروا من القدس مثلًا، فهم لم يتحدثوا أبدًا عن تفاصيل حياتنا الشخصية وكيفية تركنا للقدس. وأقصد هنا التفاصيل البسيطة. وهذا مهم ولكن عدم الحديث يكون نابعاً من "صدمة" لم يشفوا منها.
* أريد أن أعود إلى كتابك الأول، "شارون وحماتي" الذي حزت من خلاله على شهرة واسعة، وكان على قائمة أفضل المبيعات في فرنسا. ولكنك تقولين في مقدّمة الكتاب إن نشره كان مصادفة، وإن دخولك عالم الكتابة الإبداعية/ توثيقية، كان مصادفة كذلك.
لسخرية القدر أن العمل على فكرة تأسيس رواق جاء في عام 1991 بفترة منع التجول، أما كتاب "شارون وحماتي" فجاء في فترة حصار رام الله وأبو عمار عام 2002، والذي استمر لأكثر من 40 يوماً. القصة بسيطة؛ كان زوجي خارج البلاد في سفرة عمل، وكان الإسرائيليون قد فرضوا علينا حصاراً وقصفوا المقاطعة، أي المقر الرئاسي لأبي عمار في حينه. حماتي كانت تسكن بالقرب منه، واستهلكت وقتًا طويلًا لإقناعها بالقدوم إلى بيتي والبقاء معي. كانت "المشكلة" أن حماتي امرأة برجوازية وصعبة المراس. فقد نكون تحت القصف، وهي تفكر فيما إن كان شكل الصحون على مائدة الطعام مرتباً ومتلائماً! كما أنها كانت تفطر وتأكل بساعات محددة بدقة، والكثير من الأمور الأخرى. بدأت أنا في تلك الفترة، كنوع من التنفيس وخاصة أن زوجي خارج البلد، بكتابة رسائل لابنة أختي وصديقة إيطالية معروفة. باختصار قامت هذه الصديقة بتجميع الرسائل التي أرسلتها على مدار أكثر من سنة، وعرضتها على ناشر إيطالي، تحمس للأمر والتقاني وقرر نشرها، مع بعض التعديلات على شكل كتاب. هكذا بدأت مسيرتي مع الكتابة. كتاب "شارون وحماتي" شهرني من دون شك ولكنه ليس بالضرورة الكتاب المحبب إلى قلبي أو الأهم بالنسبة لي.
* ما هو إذن الكتاب الذي أثر فيك كثيرًا، ولماذا؟
كتاب "مراد مراد". هو نوع من الصحافة الاستقصائية. قمت بالتنكر بملابس عامل فلسطيني ورافقت عمالاً فلسطينيين في طريقهم من منطقة رام الله إلى فلسطين المحتلة عام 1948، والرحلة التي يقطعونها على الأقدام مخاطرين بحياتهم بغية الوصول إلى المناطق الإسرائيلية بحثًا عن لقمة العيش. أدخلتني هذه الرحلة إلى عالم مراد، وهو أخ البستاني الذي كان يعتني بحديقتي. إنه عالم العمال والناس العاديين الذين يرون الأمور على حقيقتها من دون أوهام. هم الذين يعانون ويعرفون معنى الاحتلال بكل تفاصيله، في حين أن الطبقة البرجوازية الفلسطينية بعيدة عنهم تمامًا، حتى تلك التي تدعي أنها يسارية، همومها تختلف عن همومهم. ذهبت معهم مشيًا بعد أن أنزلنا الباص في قرية الزاوية، بالقرب من نابلس، ثم قطعنا الجبال وكنا 24 عاملًا، ثم انضم إلينا المئات أتوا في ساعات الفجر من كلّ مكان. كان يقطعون الحدود من فلسطين إلى فلسطين والجيش الإسرائيلي يهاجمنا مرة ويطلق النار مرة ويلحقنا مرة. تمكّن، من مجموعتنا، خمسة من الدخول، أمّا الباقون فإما عادوا أو قبض عليهم. لقد غيّرني هذا الكتاب وأصبحت أرى مراد وقصصه الإنسانية في كل مكان أذهب إليه، وليس فقط فلسطين.