يبدو أن ميل السودان الواضح للمطالب المصرية في المرحلة الأخيرة من مفاوضات سد النهضة، زاد من التوتر والضغط الواقع على إثيوبيا بشأن القضية، والمفاوضات المتعثرة حول اتفاق دائم وملزم على قواعد الملء والتشغيل.
وتقدمت إثيوبيا، بصورة غير معلنة، بخطاب جديد إلى مجلس الأمن، عطفاً على خطاب ردها السابق على الشكوى المصرية. وركزت أديس أبابا، في الخطاب، للمرة الأولى على الهجوم على كل من مصر والسودان، في تغيير لافت للهجتها الدبلوماسية الودود حيال الخرطوم، إذ اتهمت فيه الدولتين بمحاولة فرض الأمر الواقع، الذي ترتب على اتفاق تقسيم مياه النيل في العام 1959، على آثار إنشاء سد النهضة، مكررة رفضها لذلك ومطالبتها ضمنياً بإعادة محاصصة مياه النيل. بل ذهبت إلى أبعد من هذا، بالتنويه إلى ضرورة عدم استبعاد باقي دول حوض النيل من التفاهمات الجديدة.
نوهت إثيوبيا إلى ضرورة عدم استبعاد باقي دول حوض النيل من التفاهمات الجديدة
واللافت في الخطاب، الذي حصلت "العربي الجديد" على نسخة منه، أن وزير الخارجية الإثيوبي جيدو أندراجاشيو قد وقعه عشية جلسة مجلس الأمن التي انعقدت الإثنين الماضي، وشهدت ما يشبه المشادة بين وزير الخارجية المصري سامح شكري ومندوب إثيوبيا لدى الأمم المتحدة تايي أثقلاسيلاسي حول سير مصر في المفاوضات الأفريقية وشكوى مجلس الأمن بالتوازي مع إصرارها على عقد جلسة الأمن، كصورة للازدواج السياسي وسوء النوايا. أي أن إثيوبيا نفسها قامت بنفس الفعل، بل إنها استبقت الجلسة بهذا الهجوم الذي يحمل من السياسة اعتبارات أكثر من الجانب الفني، كما أنه يأتي بعد أقل من 48 ساعة على انتهاء القمة الأفريقية المصغرة الجمعة الماضي التي انتهت بالاتفاق على استئناف المفاوضات.
وهذه ليست المرة الأولى التي تتحدث فيها أديس أبابا عن إشراك دول حوض النيل. إذ وفقاً للمصادر الدبلوماسية فإنها أبلغت واشنطن، نهاية فبراير/شباط الماضي، بأنها باتت ترى أن أي اتفاق ثلاثي حول مياه النيل الأزرق، دون العرض على باقي دول حوض النيل -بما في ذلك دول النيل الأبيض- أمر يفتقر للعدالة، ويسمح باحتكار دولتي المصب للمياه، وإهدار نتائج الاتفاق الإطاري في عنتيبي في العام 2010. وذكرت المصادر أن هذه الرسالة الإثيوبية كانت في حينه تمهيدا للانسحاب الرسمي من المفاوضات الثلاثية برعاية واشنطن والبنك الدولي، خصوصاً أن اتفاق عنتيبي يقوم في الأساس على إعادة توزيع الحصص بصورة مجحفة لمصر والسودان، وتزيد عن إمكانات دول المنبع في التخزين والاستفادة، الأمر الذي يفرغ جميع المفاوضات الثلاثية، بما فيها اتفاق المبادئ 2015، من قيمتها ومعناها.
وفي الوقت ذاته، أطلقت القوى السياسية الإثيوبية الموالية لرئيس الوزراء أبي أحمد، وعلى رأسها حزبه الجديد "الرفاه" بمساهمة كبيرة من وزارة الخارجية، فعاليات ممتدة لأربعة أيام في الولايات المتحدة وجميع الدول الأوروبية لعرض قضية سد النهضة وما يصفونه بـ"الحق في ملء السد وتشغيله"، وجمع المساعدات المالية للحكومة للمضي قدماً في المشاريع المطلوبة تمهيداً لملء السد، مثل تطهير الغابات المحيطة به وبحيرة تانا، وإزالة النباتات والأعشاب الضارة وتجفيف التربة وغيرها. وقال مصدر سياسي إثيوبي، لـ"العربي الجديد"، إن سفارة بلاده في الولايات المتحدة عقدت عدة اجتماعات خلال الأيام الأخيرة مع نواب أميركيين من أصول أفريقية لعرض مستجدات المفاوضات عليهم، وطالبتهم بالتدخل لدى الخارجية الأميركية والبيت الأبيض لمنع ما وصفته بـ"انحياز إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمصر في القضية"، الأمر الذي كان محل مناشدة أيضاً الأسبوع الماضي من مجموعة سفراء في الخارجية الأميركية.
عقدت السفارة الإثيوبية في الولايات المتحدة اجتماعات مع نواب أميركيين من أصول أفريقية لعرض مستجدات المفاوضات عليهم
وفي المقابل، مضت مصر قدماً في تغيير لهجتها أيضاً عند مناقشة مصير السد والمفاوضات. وأشار وزير الموارد المائية والري محمد عبد العاطي، في حوار تلفزيوني أول من أمس، إلى احتمالية انهيار السد وتسببه في إغراق السودان، والتكلفة الكبيرة التي قد تترتب على مصر لمنع الإضرار بها جراء أي انهيار، وذلك في استمرار لتصعيد الحديث عن مسألة أمان السد التي طرحتها مصر للمرة الأولى خلال كلمة وزير الخارجية سامح شكري أمام مجلس الأمن الإثنين الماضي. وكانت مسألة أمان السد حكراً فقط على الخطاب السوداني في الشهور الماضية، بينما كانت مصر تركز على المسائل الفنية الأخرى، مثل ضوابط الملء الأول والمستمر والتشغيل في أوقات الجفاف والجفاف الممتد. لكن الطرح المشترك من المصريين والسودانيين لمسألة الأمان في الوقت الحالي يستهدف القوى الخارجية المراقبة للموقف أكثر من مجريات التفاوض ذاتها، بحسب مصدر فني مصري، قال إن المفاوضات المتعثرة حالياً يجب الاستعانة فيها بجميع الأسلحة الممكنة، كما تحاول إثيوبيا في المقابل إحراج مصر والسودان بقضية المحاصصة.
ومن المقرر وفق مخرجات القمة الأفريقية المصغرة، أن يتم إعداد تقرير مشترك من الدول الثلاث حول المسائل الفنية والقانونية العالقة وإرساله، خلال ساعات من الآن، لرئيس جنوب أفريقيا والاتحاد الأفريقي سيريل رامافوزا، ثم التفاوض المكثف لأسبوع أو اثنين بعد ذلك وصولاً إلى حل نهائي، والتوقيع على صياغة متفق عليها من الجميع. يذكر أن المفاوضات الفنية انتهت حتى الآن إلى الاتفاق فقط على قواعد الملء الأول، وحجم التدفق البيئي، والمبادئ التوجيهية للملء الأول، والقواعد العامة لإدارة فترات الجفاف، وقواعد سلامة السد والمساعدة في استمرار تشغيله، ودراسات التقييم، وموعد تطبيق تلك القواعد، وهي لا تتعارض مع البنود التي ما زالت في إطار التفاوض، والتي هي بطبيعتها أكثر تفصيلية، وأبرزها منسوب المياه المطلوب ضمان استمراره لبحيرة سد النهضة في حالات الشح المائي والجفاف الممتد.
وسبق وقدمت القاهرة مصفوفة توضح أن التدابير التي تضمنتها مسودة اتفاق واشنطن التي وقعت مصر عليها منفردة، تبقي منسوب المياه، إذا توافرت كل حالات الاستثناء من جفاف وتمرير لأعلى نسبة مطلوبة من المياه، عند 605 أمتار تقريباً، علماً بأن نقطة الجفاف النظرية هي 603 أمتار. وأوضحت المصفوفة أيضاً أن تمرير كمية تتراوح بين 37 و38 مليار متر مكعب في أوقات الجفاف ستبقي السد ممتلئاً بكمية تصل إلى 23 مليار متر مكعب، وهو ما يكفي تماماً لتوليد الطاقة المطلوبة، الأمر الذي يتعنت فيه الإثيوبيون.
أما الإشكاليات القانونية العالقة فتتمثل في عدم قبول إثيوبيا بإلزامية كل بند في الاتفاق المزمع توقيعه، متذرعة بأن مثل هذا الاتفاق سيكون عرضة في أي وقت للتعديل والتغيير بناء على تنسيق الأطراف الثلاثة، وبالتالي فهي تطالب باللجوء فقط لاتفاق المبادئ، الموقع في مارس/آذار 2015. لكن مصر ترغب في تلافي المشاكل العملية التي أظهرها اتفاق المبادئ، بما يمنع الركون إلى افتراض "حسن النوايا" الذي كان مسيطراً على العلاقات بين الجانبين وقت توقيع الاتفاق. فهم يريدون أن يتم التوافق على طريقة واضحة للتحكيم، بناء على طلب أي طرف، واختيار عناصر محددة لهيئة التحكيم أو جهة دولية موثوقة لجميع الأطراف، وإزالة العوائق التي تجعل اللجوء السريع للتحكيم مستحيلاً، مثل اتفاق الدول الثلاث.