بعد أيام من عقد القمة الأفريقية المصغّرة، التي أعلنت فيها إثيوبيا انتصارها بإتمام الملء الأول لسد النهضة، عادت الخارجية الإثيوبية لتستفزّ مصر والسودان واستعراض عضلاتها الدبلوماسية عليهما، بتصريح أطلقه، مساء أول من أمس الجمعة، المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإثيوبية، السفير الإثيوبي السابق في القاهرة، دينا مفتي، عن "بحث بلاده عن اتفاق يمكن مراجعته في أي وقت عندما تحتاج إثيوبيا إلى ذلك"، بدلاً من اعتماد اتفاق ملزم للجميع، حسبما جاء في القمة المصغّرة، التي فشلت القاهرة في تحقيق أي مكسب منها.
لن تجرّب إثيوبيا مولدات الكهرباء قبل شهر فبراير المقبل
وتداولت وكالات أنباء ووسائل إعلام مختلفة تصريحات مفتي، باعتبار أنه تحدث عن التوصل إلى اتفاق غير ملزم، بينما تعمّدت وكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية "إينا" عدم الإشارة إلى مسألة الإلزام من عدمه، أو ثبات الاتفاق من عدمه، في محاولة معتادة للتعتيم على السلوك الحقيقي للسياسة الدبلوماسية لأديس أبابا وإطلاق تصريحات متناقضة أو مغايرة لبعضها، ليسهل التراجع عن أي منها. وقبل تصريحات مفتي ببضع ساعات، أصدر الاتحاد الأفريقي بياناً رسمياً عن حصيلة القمة المصغّرة، قال فيه بشكل واضح، وللمرة الأولى، إنه قد تم الاتفاق على الانتهاء من المفاوضات "بنصّ اتفاق ملزم" بشأن ملء وتشغيل سد النهضة، الذي ينبغي أن يتضمن اتفاقاً شاملاً بشأن التطورات المستقبلية على النيل الأزرق. وبذلك أصبحت القضية متعددة المستويات من ناحية تمييز طبيعة الاتفاقات ونطاقها؛ فهناك خلاف بين مصر وإثيوبيا على مدى الإلزامية "القانونية" للاتفاق على قواعد تشغيل السد، وهناك خلاف على مسألة تحديد آلية ملزمة لفض المنازعات بين الدول الثلاث، وهناك رغبة إثيوبية في أن تظل جميع قواعد الملء والتشغيل استرشادية، ويحق لأديس أبابا وحدها تغييرها بحسب حاجتها للتخزين. وما يضعف موقف مصر والسودان في هذه النقطة أن المبدأ الخامس من اتفاق المبادئ الموقع في مارس/ آذار 2015، الذي يتحدث عن التعاون في الملء الأول وإدارة السد، يكتفي بالنص على التشارك في وضع "الخطوط الإرشادية والقواعد" من دون تفاصيل التشغيل، ويجيز لإثيوبيا إعادة ضبط سياسة التشغيل من وقت لآخر، بشرط "إخطار" وليس أخذ رأي أو استئذان مصر والسودان. وتستند إثيوبيا إلى البند الثاني من المبدأ ذاته، لتبرّر أن القواعد التي يجب الاتفاق عليها لا يمكن اعتبارها ملزمة بأي حال، لأنها موصوفة في الاتفاق بأنها "استرشادية"، فضلاً عن كونها غير مقتصرة على خطة واحدة يجب اتّباعها، فهي بحسب النص "ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد". ويحمل البند نفسه نصاً يؤيد الرؤية الإثيوبية، يتحدث عن "الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لسد النهضة والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد"، مما تعتبره إثيوبيا سنداً لها لإنجازها الملء الأول بالفعل، بالتوازي مع المفاوضات طالما لم يكتمل بناء السد حتى الآن. ويتضمن هذا المبدأ بنداً آخر تفسّره إثيوبيا لصالحها فقط، وهو "الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي لسد النهضة، والتي يجوز لمالك السد ضبطها من وقت لآخر". وعليه ترى إثيوبيا أن مصر اعترفت بتوقيعها على هذا البند بالسيادة المطلقة لها على السد، وبالتالي ترفض مشاركتها والسودان في تحديد قواعد التشغيل طويلة الأمد، إلا في حدود التأكد من "عدم الإضرار"، باعتباره مبدأ منصوصاً عليه في الاتفاق ذاته. وبحسب تفسير أديس أبابا، فإن الإخطار المسبق "الوحيد" الذي تكلف به إثيوبيا ضمن الاتفاق هو "إخطار دولتي المصب بأية ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية تشغيل السد بواسطتها". في السياق، ذكر مصدر دبلوماسي مصري أن إصدار بيان القمة المصغرة تأخر ثلاثة أيام بسبب خلافات مصر وإثيوبيا حول نصّ النقطة الخاصة بالإلزام في تحديد القواعد مع مصر والسودان، وأن الحل في النهاية جاء بوساطة جنوب أفريقيا التي ترأس الاتحاد الأفريقي، بالنصّ على الإلزام حسبما جاء في القمة، مع إضافة عبارة "التطورات المستقبلية على النيل الأزرق" تلبية للطلب الإثيوبي. وأضاف المصدر لـ"العربي الجديد" أن البيان فتح الباب لمفاوضات "قد تكون طويلة الأمد"، تتضمن الاتفاق على قواعد الملء السنوي والتشغيل المستمر، وإعادة المحاصصة في مياه النيل الأزرق بين إثيوبيا والسودان ومصر، وإلغاء كل اتفاقيات تقاسم المياه السابقة، وعلى رأسها اتفاقية 1959. كذلك أتاح البيان مسألة التعامل مع المشروعات المستقبلية التي يمكن لإثيوبيا إنشاؤها على النيل الأزرق في المسافة الواقعة بين المنابع وسد النهضة، وهي النقطة التي أصرّت كل من مصر والسودان على أن تكون ضرورة الإخطار المسبق قبل فترة كافية واضحة فيها. وشدّد المصدر على أن إضافة هذه العناصر للاتفاق، بعدما كان مرفوضاً لمصر والسودان التطرق إليها في المفاوضات السابقة، سيؤدي إلى مزيد من البحث والخلافات، لكن الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا يرغب في حسم الاتفاق النهائي "الشامل" خلال فترة رئاسته الحالية للاتحاد الأفريقي، باعتبار أنه سيكون إنجازاً تاريخياً يحسب له ولبلاده. وذكر المصدر أنه بناء على الوضع الفني الحالي بالنسبة للسد، فإنه لم يعد هناك واقعياً ما يستدعي الإسراع أو السباق مع الزمن للتوصل إلى اتفاق، لأنه لن يكون هناك أي تغيير على خريطة الملء والتشغيل حتى شهر فبراير/ شباط المقبل على الأقلّ، أي حتى تبدأ إثيوبيا في تجربة مولدات الكهرباء بتشغيل اثنين من التوربينات الخاصة بالتوليد في السد، وتقييم عملهما، تمهيداً لإتمام تركيب 11 توربيناً آخر، لحين الانتهاء تماماً من الأعمال الإنشائية في السد. وأوضح المصدر أن الإشكالية الخاصة بإعادة المحاصصة ستبقى خلافية، مشيراً إلى أن مصر "مصممة" على اشتراط التوصل إلى الاتفاق الملزم ذي الآلية الواضحة لفض المنازعات، قبل التطرق إلى مسألتي المحاصصة والمشروعات المستقبلية. من جانبها أفادت مصادر فنية بوزارة الري المصرية بأن المفاوضات حالياً "مجمّدة"، وأن الرئاسة لم تطلب من الوزارة القيام بأي خطوات جديدة، في انتظار تحديد جدول زمني للمفاوضات الجديدة الشاملة.
وفي نفس الوقت تراقب الوزارة تأثيرات الوضع الفني والبيئي حالياً في سد النهضة على سدود السودان والسد العالي. وأضافت المصادر أن بحيرة ناصر لم تتأثر إطلاقاً بإتمام تخزين الكميات المطلوبة من المياه في إثيوبيا، نظراً إلى اتخاذ الوزارة الاحتياطات اللازمة لتعويضها لمدة عام، فضلاً عن أنها في الواقع، وبالنسبة لفترة الرخاء الحالية، كمية تقل كثيراً عن كميات المياه التي كانت تنقص في السنوات العشرين السابقة من إيراد النيل لأسباب مختلفة، وهي كميات تتراوح بين 6 و9 مليارات متر مكعب. لكن المصادر نبّهت إلى أن مصر يمكن أن تتأثر بشدة في حال حجز مزيد من الكميات قبل تجربة المولدات الكهرومائية، مضيفة أن تخزين المياه في منطقة سد النهضة أمر جديد من نوعه وغير مجرب من قبل، وهناك احتمالات بزيادة معدلات تبخر المياه خلال الأشهر المقبلة، وهو ما يستدعي تعويضها بتخزين كميات إضافية قبل تجريب التوليد. كما أن عملية التوليد نفسها ستنبئ عن معدلات الاستخدام المتوقعة مستقبلاً مع زيادة عدد المولدات قياساً بارتفاع مستوى المياه. وتدّعي المصفوفات الإثيوبية المقدمة في المفاوضات ولمجلس الأمن وإلى الاتحاد الأفريقي عدم إيقاع أي أضرار بمصر في أي مرحلة من ملء وتشغيل السد، على النقيض تماماً من المصفوفات والتقارير الفنية المصرية، التي لا تتحدث فقط عن خروج آلاف الأفدنة من الرقعة الزراعية على مراحل، ربما تبدأ في عام 2021، ولكن أيضاً بسبب الأموال الضخمة التي يتحتم على مصر أن تنفقها في المستقبل البعيد لتحسين الظروف البيئية للمياه وتحسين جودتها وجعلها صالحة للشرب، بالنظر للتوسع الكبير الذي سيطرأ على استخدامها للأغراض الزراعية والصناعية والتنموية في كل من إثيوبيا والسودان.
لن تجرّب إثيوبيا مولدات الكهرباء قبل شهر فبراير المقبل
وقبل كل الاعتبارات الفنية والبيئية والاقتصادية التي تجعل من تشغيل سد النهضة بالصورة التي تم بها الملء الأول خطراً محدقاً على الشعب المصري، فسيكون للسد، لحظة تشغيله، تأثير خطير على الموقف الاستراتيجي لمصر، بوضعها تحت رحمة إثيوبيا، وهو ما عبّر عنه جميع المراقبين وحتى المسؤولين الحكوميين المصريين مراراً، خصوصاً أن التقديرات المصرية والسودانية تتفق على أنه لا يمكن قبول الرواية الإثيوبية الدائمة بأن سد النهضة يهدف في الأساس لتوليد الكهرباء وحسب، بل إن ضخامة هذا السد لن تسمح له فقط بالإسهام في تحقيق نهضة غير مسبوقة للزراعة في إثيوبيا على مدار تاريخها. ويسمح لها أيضاً بممارسة ضغوط استراتيجية على السودان ومصر، وهو أمر سيصعب التعامل معها مستقبلاً، وقد تكون منفذاً لممارسة قوى أخرى تلك الضغوط من خلال أديس أبابا، وكذلك الإسهام في تحويلها إلى مركز الثقل السياسي الرئيسي في منطقة شرق أفريقيا، فضلاً عن زيادة فرض منافستها لمصر على اجتذاب المشروعات التنموية من المستثمرين بمختلف دول العالم، الذين كانوا يفضلون مصر بسبب أفضليتها اللوجستية ومرافقها قياساً بباقي دول المنطقة. وتدفع مصر ثمن سلسلة من الأخطاء السياسية، وعلى رأسها بطبيعة الحال توقيع الرئيس عبد الفتاح السيسي على اتفاق المبادئ في مارس/ آذار 2015، الذي اعترف أولاً بحق إثيوبيا في بناء السدّ، الأمر الذي لم تكن مصر قد بادرت إليه من قبل. وأقرّ ثانياً بحقها السيادي في إدارته، ولم يقرر أي جزاء قانوني دولي عليها حال مخالفة الاتفاقيات السابق توقيعها في إطار الإدارة المشتركة لمياه النيل، وبصفة خاصة عامي 1902 و1993.