يعترف مجتمع الكتابة والقراءة بأن السخرية من جوهر الأدبِ وركيزةٌ أساس فيه، وبملازمتها إياه منذ القِدم. وقد انتبه القُدماء من فلاسفة وأدباء إلى قيمة حضورها في أدبِهم، واشتُهِر بها كثيرون منهم، في ثقافتنا العربية، الجاحظ وابن الرومي وآخرون.
واعتُبِر برنارد شو من أبرع السَّاخرين في كتابته وحياته، فقد درج على السخرية والتهكُّم من كلِّ شيء حتى من "جائزة نوبل"، التي مُنِحتْ له، لكنه رفضها قائلاً عنها "إنها طوق نجاة أُلقِيَ به إلى رجل وصل فعلاً إلى برّ الأمان، ولم يَبْق من خطر يُهدِّده".
وقد عُدّ الأرجنتينيُّ خ. ل. بورخيس من أبرز كُتّاب العالَم ومترجِميه ممارَسةً للسخرية في مَعيشِهم اليومي، وفي كتاباتهم أيضاً. ومن الأمثلة على ذلك مَزْجهُ الهزل بالجد في تَهَكُّم على المتباكين على مكتبة الإسكندرية، الذين اختلفوا بصدد سبب اندثارها الفجائيّ وعدُّوا اختفاءَها خسارةً كُبرى للبشرية، فقد اعتبر بورخيس موقفهم لا معنى له، لأنه كان يؤمن أنَّ هنالك دوماً إمكانية لاستدراك أعمال ضاعتْ على اعتبار أنّ العالَم كلَّه يؤلِّف كتاباً واحداً، بل إنه سخر من أولئك الذين يتصرَّفون في بعض أسماء الأعلام فيُغيِّرونها، كما هي الحال مع الكاتب الإنكليزي كِبْلينغ Kepling، الذي كتبه بعض الإسبان "كيبْلينْغُو" أو تخوّفه من أن يصير شعب الفَايْكِنْغ Vikings عندهم فِيكِنْغُو.
يتردّد الناشرون في إصدار كتب ساخرة مترجمة خشية ألا تفهم
وتكثر الأمثلة في هذا الباب، ويُمكن أن نستحضر، على سبيل المثال، ما شاع في الأندلس، وله علاقة بالأدب والترجمة في ذات الوقت، أقصد تلك الواقعة الطريفة التي ذُكِر فيها ابنُ لَيُّون التُّجيبي، الذي اشتُهِر باختصاره الكُتب تصحيحاً وتنقيحاً وتصويباً، فطَبَّقَ الآفاقَ صيتُه، حتى إنه حُكي أنَّ رجُلاً طويلاً وفد على مجلس، فلمَّا رآه أحدُ الظرفاء المغاربة؛ قال في حقه: "لو رآهُ ابنُ ليون لاخْتصَرَه".
لكنْ، أيُّ علاقة بين اختصار كتاب والترجمة؟ لنتذكَّر أن رومان ياكوبسون صنَّف الترجمة إلى ثلاث، الأولى هي الترجمة بين-لغوية؛ وهي نقل عمل وتحويله من لغة إلى أخرى، والثانية هي الترجمة بين-سيميائية؛ وهي تحويل عمل ينتمي إلى نظام سيميائي إلى نظام سيميائي آخر، كنقل رواية أدبية إلى السينما، وقصيدة إلى لوحة تشكيلية، والثالثة هي التَّرجمة داخلَ-لغوية، وهي تلك التي تكون داخل اللغة نفسها، وتكون بإعادة كتابة عمل قديم بلغة وأسلوب حديثيْن تُبسِّطه للمعاصرين، مثلاً، عَبر التصرُّف فيه اختصاراً واقتباساً وغيرهما؛ أو بتفسير العمل الأدبي ضمن ما يُعرَف بالشروح والحواشي والاختصارات والتنويرات وغيرهما، وهو جهد يبقى داخل ذات اللغة، لأنه يُعيد صياغة النص لإفهامه لمن قد يستعصي عليه فهمُه أو يلتبس، ويُعَدّ هذا الفعل ترجمة.
ومعلوم أن السخرية تطبع أسلوب بعض الكُتّاب الشهيرين، الذين يستعملونها بصفتها سمة أسلوبية، ولكونها أرقى أنواع الكتابة، وهم يُحوِّلونها إلى وسيلة فعّالة للانتقاد والسخرية من أوضاع وشخصيات وأشكال سلوك... إلخ.
وتكون هذه السخرية الرّهانَ الأكبر الذي يعترض المترجِم، لأن الإخفاق في ترجمتها يكون سبباً رئيساً في عدم رواج الكِتاب من جهة، ومن جهة أخرى في عدم حضور مؤلِّفِه في ثقافات أخرى. ولا يتردَّد بعضُ الناشرين بدورهم في تفادي نشر هذا النوع من الكُتب، ويتذرَّعون بكونها تحمل بصمات محلّيّة يصعب على القارئ العاديّ تمثُّلُها، بل إنّ بعضَهم يشرع في إملاء بعض الحلول على المترجِم لضمان رواج الكِتاب المترجَم.
وفي هذا السياق، يُمكن أن نفهم ذلك التنويه الكبير الذي أغدقه جورج سْتَايْنِر في كتابه "يوم سبت طويل" على صامويل بيكيت، لمّا أشار إلى ميزات طبعت الكتابة عند الكاتب والشاعر الأيرلندي، فقد مدح الأخير باعتباره "أكبر كُتّاب أدبنا الحديث. لقد ابتكر نوعاً من الأرض البركانية، صُهارَةً بركانية تمتزج فيها اللغات. إضافة إلى أنه أفلح في أن يُنجز ما لم يَقدر أحد عليه -أوْ لا أحد تقريباً-، في تاريخ الأدب "لقد تمكّن من نقل النُّكت من لغة إلى أخرى. هذا هو أصعب ما يُمكن إنجازُه في الترجمة. لقد كان من حُذَّاق بابل".