يتّخذ "مادة سحرية تسري في داخلي"، للفلسطينية الأميركية جمانة مناع (1987)، من الموسيقى وتاريخها وحضورها في الاجتماع اليومي للناس، نواة سينمائية، تستعيد مساراً قديماً من التنقيب في أصول الموسيقى العربية، وتداخلها في الحياة اليومية وتقلّباتها. وهي، لهذا، تنطلق من تسجيلات صوتية لعالم الموسيقي الألماني روبرت لاخمان (1892 ـ 1939)، التي يطلب فيها ـ أثناء زيارته فلسطين عام 1936 ـ "مشورة الخبراء"، في مواجهة الإهانات والانتقادات التي تلاحقه، بسبب "بحثه عن الموسيقى" في تلك البلاد.
تسجيل صوتيّ لعاشق الموسيقى، والعالِم بها، كافٍ لتحريض الفنانة والمخرجة جمانة مناع على البدء برحلةٍ، تجوب فيها عوالم الموسيقى المقبلة إلى فلسطين من نواحٍ جغرافية مختلفة، ومن تاريخٍ عابقٍ بسحرٍ يُصيب المستمع إلى عازفين يستعيدون تراثاً، ومنشدين يُطلقون العنان لأصواتٍ تتماهى، عبر الأفق والحكايات المخبّأة والتفاصيل المحمَّلة بتلك الحكايات، بمعانٍ خفيّة، تصنعها تلك الموسيقى، بألحانها ونبرتها وكلماتها ونوتاتها وأصواتها المختلفة.
والرحلة لن تكون محصورة في الموسيقى وماضيها ومساراتها، التي تؤدّي بها إلى فلسطين، قبل احتلالها عام 1948، وبعد النكبة وإفرازاتها، أو النابعة من جذورها الأصليّة. فهي (الرحلة) أشبه باغتسالٍ روحي، يستند إلى ذاك الفن، كي يكتشف المعاني المبثوثة فيه ومنه، وكي يعثر على وقائع العيش اليومي في ظلّ ذاكرة وراهن يتصادمان ويتكاملان، أحدهما مع الآخر، في آن واحد.
الذاتيّ حاضرٌ، ليس عبر وجود الفنانة والمخرجة خلف الكاميرا (تصوير دانيال كيديم) فقط، بل أيضاً عبر أناس تعرفهم (كوالديها مثلاً، فالأب مؤرّخ والأم مسؤولة برنامج تربوي معنيّ بتعليم الطفولة المبكرة)، وأناسٍ تلتقيهم في مسارها التوثيقيّ، وهؤلاء يفتحون أمامها منافذ إلى عوالم موغلة في القدم، ثقافياً وحضارياً وفنياً وإنسانياً، ضمن دائرة الموسيقى الشرقية، الحاملة اسم "مزراحي" (نتاج اختلاط أنماطٍ عديدة من الموسيقى اليهودية، المتحدّرة من أوروبا وأفريقيا الشمالية والعالم العربي)، والموسيقى الفلسطينية.
تُعلن جمانة مناع، منذ بداية "مادة سحرية تسري في داخلي"، أنها بصدد تحقيق فيلم عن
برنامج إذاعيّ، لعالم الموسيقى الألماني لاخمان، الذي كان يبحث عن تلك الموسيقى الشرقية والفلسطينية، منتصف ثلاثينيات القرن الـ 20. تقول إن لاخمان نفسه لم يتردّد عن دعوة البعض إلى استديو الإذاعة، لمشاركته الدراسة والبحث، طالباً من هؤلاء تقديم عروضٍ موسيقية مستلّة مما يبحث عنه. هكذا يبدأ الفيلم (فيديو HD، 2016، 68 دقيقة، إنتاج مشترك بين فلسطين وألمانيا وبريطانيا)، وهكذا تأخذ جمانة مناع مشاهديه في تلك الرحلة، التي تمتلك كمّاً من السحر المتدفّق من أنواعٍ موسيقية مختلفة، ومن عزفٍ موسيقيّ لأناسٍ مختلفي الثقافات والمرجعيات والمسالك الحياتية، كالبدو والمغاربة والعراقيين والأكراد والسومريين، وبعض هؤلاء يهود.
أي أن الوثائقيّ السينمائيّ يمزج تلك التقاليد الموسيقية بعاداتٍ اجتماعية، إذْ يُقدِّم نماذج من ألحان متداولة في أعراسٍ تُقام في بيئات ريفية في شمال فلسطين، ومن أنغامٍ ليتورجية مأخوذة من أغنيات كردية، ومن أغانٍ يمنية يهودية، وغيرها. وجمانة مناع غير مكتفية بالسماع إلى عزفٍ أو لحنٍ، ولا بمشاهدة طقوسٍ متناغمة وتلك الألحان التي تعكس أمزجة شعوبٍ ودياناتٍ؛ إذْ إنها تلتقي بعض هؤلاء لتبيان أصول بعض الألحان المسجَّلة على أشرطة "كاسيت"، ولفهم مرجعياتها، وللتأكّد من هوياتها وانتماءاتها الثقافية والاجتماعية والإنسانية، وبفهم الفرق الكامن بين أنغام وآلات موسيقية ومناخات فنية.
وهذا كلّه لن يبتعد عن وقائع العيش في بلدٍ محتلٍّ، وعن مناخٍ سائدٍ في منطقة جغرافية ملتهبة، تحيط بفلسطين، وترتبط بها عبر هجراتٍ وعلاقاتٍ. لكن الراهن ـ السياسي والاقتصادي والاجتماعي ـ لن يحتلّ مساحات كبيرة، إذْ يمرّ في ثنايا الحكايات، ليروي بعض وقائع العيش في زمن الحريق الكبير، الذي يلتهم تلك الجغرافيا العربية. مثلٌ: يروي الأب أمام الكاميرا تفاصيل لقاء من لقاءات عديدة له مع صديقه إسحاق (اليهودي العراقي)، حول أغنية "يا ظالمني" لأم كلثوم. لكن النقاش حول الأغنية لن يكون أقلّ من مدخل إلى ما هو أعمق، إذْ يبوح إسحاق بخشيته من العودة إلى بغداد، "لأن الوضع خطرٌ"، فإذا بالأب يقول له بضرورة التفاؤل، "فلا بُدّ أن يأتي يومٌ كهذا (عودة إسحاق إلى بغداد)".
السخرية المبطّنة قابلة لكشفِ شيء من غليان اللحظة، وراهنها. لكن "مادة سحرية تسري في داخلي" لجمانة مناع يبقى شهادة سينمائية حقّة، جميلة ومؤثّرة وآسرة، عن قوّة الموسيقى في إيجاد متّسع من المساحات القادرة على الجمع والتواصل. شهادة توثّق شيئاً من أنماطٍ موسيقية لعلّ كثيرين يجهلونها، فإذا بالفيلم يضع بعضاً منها أمام كاميرا تلتقط أحوالاً وانفعالات وجماليات، وارتباكاتٍ أيضاً.
اقــرأ أيضاً
والرحلة لن تكون محصورة في الموسيقى وماضيها ومساراتها، التي تؤدّي بها إلى فلسطين، قبل احتلالها عام 1948، وبعد النكبة وإفرازاتها، أو النابعة من جذورها الأصليّة. فهي (الرحلة) أشبه باغتسالٍ روحي، يستند إلى ذاك الفن، كي يكتشف المعاني المبثوثة فيه ومنه، وكي يعثر على وقائع العيش اليومي في ظلّ ذاكرة وراهن يتصادمان ويتكاملان، أحدهما مع الآخر، في آن واحد.
الذاتيّ حاضرٌ، ليس عبر وجود الفنانة والمخرجة خلف الكاميرا (تصوير دانيال كيديم) فقط، بل أيضاً عبر أناس تعرفهم (كوالديها مثلاً، فالأب مؤرّخ والأم مسؤولة برنامج تربوي معنيّ بتعليم الطفولة المبكرة)، وأناسٍ تلتقيهم في مسارها التوثيقيّ، وهؤلاء يفتحون أمامها منافذ إلى عوالم موغلة في القدم، ثقافياً وحضارياً وفنياً وإنسانياً، ضمن دائرة الموسيقى الشرقية، الحاملة اسم "مزراحي" (نتاج اختلاط أنماطٍ عديدة من الموسيقى اليهودية، المتحدّرة من أوروبا وأفريقيا الشمالية والعالم العربي)، والموسيقى الفلسطينية.
تُعلن جمانة مناع، منذ بداية "مادة سحرية تسري في داخلي"، أنها بصدد تحقيق فيلم عن
أي أن الوثائقيّ السينمائيّ يمزج تلك التقاليد الموسيقية بعاداتٍ اجتماعية، إذْ يُقدِّم نماذج من ألحان متداولة في أعراسٍ تُقام في بيئات ريفية في شمال فلسطين، ومن أنغامٍ ليتورجية مأخوذة من أغنيات كردية، ومن أغانٍ يمنية يهودية، وغيرها. وجمانة مناع غير مكتفية بالسماع إلى عزفٍ أو لحنٍ، ولا بمشاهدة طقوسٍ متناغمة وتلك الألحان التي تعكس أمزجة شعوبٍ ودياناتٍ؛ إذْ إنها تلتقي بعض هؤلاء لتبيان أصول بعض الألحان المسجَّلة على أشرطة "كاسيت"، ولفهم مرجعياتها، وللتأكّد من هوياتها وانتماءاتها الثقافية والاجتماعية والإنسانية، وبفهم الفرق الكامن بين أنغام وآلات موسيقية ومناخات فنية.
انضموا معنا إلى عرض فيلم "مادة سحرية تسري في داخلي" للمخرجة جمانة مناع - السبت 28 يناير، 8:30 م في المباني الفنية لمؤسسة الشارقة للفنون. pic.twitter.com/DEMkQYHOKJ
— SharjahArtFoundation (@SharjahArt) January 26, 2017
وهذا كلّه لن يبتعد عن وقائع العيش في بلدٍ محتلٍّ، وعن مناخٍ سائدٍ في منطقة جغرافية ملتهبة، تحيط بفلسطين، وترتبط بها عبر هجراتٍ وعلاقاتٍ. لكن الراهن ـ السياسي والاقتصادي والاجتماعي ـ لن يحتلّ مساحات كبيرة، إذْ يمرّ في ثنايا الحكايات، ليروي بعض وقائع العيش في زمن الحريق الكبير، الذي يلتهم تلك الجغرافيا العربية. مثلٌ: يروي الأب أمام الكاميرا تفاصيل لقاء من لقاءات عديدة له مع صديقه إسحاق (اليهودي العراقي)، حول أغنية "يا ظالمني" لأم كلثوم. لكن النقاش حول الأغنية لن يكون أقلّ من مدخل إلى ما هو أعمق، إذْ يبوح إسحاق بخشيته من العودة إلى بغداد، "لأن الوضع خطرٌ"، فإذا بالأب يقول له بضرورة التفاؤل، "فلا بُدّ أن يأتي يومٌ كهذا (عودة إسحاق إلى بغداد)".
السخرية المبطّنة قابلة لكشفِ شيء من غليان اللحظة، وراهنها. لكن "مادة سحرية تسري في داخلي" لجمانة مناع يبقى شهادة سينمائية حقّة، جميلة ومؤثّرة وآسرة، عن قوّة الموسيقى في إيجاد متّسع من المساحات القادرة على الجمع والتواصل. شهادة توثّق شيئاً من أنماطٍ موسيقية لعلّ كثيرين يجهلونها، فإذا بالفيلم يضع بعضاً منها أمام كاميرا تلتقط أحوالاً وانفعالات وجماليات، وارتباكاتٍ أيضاً.