تبدّل طريقة عرض موضوع الهجرة واللجوء في بلد كان يُعَدّ حتى وقت قريب "الأكثر ترحيباً بالأجانب"، ينعكس على كلّ الصعد، لا سيّما قبيل الانتخابات السويدية العامة المرتقبة بعد أيام.
لا تبدو مسألة الهجرة والاندماج في السويد، أكثر البلدان شهرة في شمال القارة الأوروبية، مهمّة بالنسبة إلى غير المقيمين في البلدان الاسكندنافية. أمّا مواطنو السويد وجارتيها الاسكندنافيتين الدنمارك والنرويج، وبشكل أوسع مجموعة دول الشمال، فإنّهم يولون تلك القضية أهمية كبرى إذ تُعَد من بين المؤشرات الدالة على مستقبل مجتمعات المنطقة وعلاقاتها بالمهاجرين. وهؤلاء المهاجرون واللاجئون يمثّلون اليوم نحو ربع سكان السويد (من أصل نحو 10 ملايين نسمة)، لتُضاف إليهم نسب مئوية مختلفة في دول الشمال الأخرى، وتأتي الحصيلة بالتالي ما بين 40 و45 في المائة من سكان اسكندنافيا عموماً.
ليس بعيداً عن مسألة "الخشية على الأصل" التي يرفع لواءها اليمين القومي في السويد ومجموعات ثقافية ومجتمعية متشددة، بات التعبير عن قلق من المستقبل المرتبط بالهجرة أكثر عمقاً وأكثر علنية من السابق. وطبيعة المجتمع السويدي، خصوصاً مع مستجدات العقود الماضية من أرقام رسمية وشبه رسمية، أبقت الحساسية قائمة في مجال تجنّب مسألتَي "الأصل" و"النسب المئوية للمهاجرين". والأخيرة هاجس اليمين المتشدد، كفيلة بجذب مزيد من الخائفين على "مستقبل دولة الرخاء والرفاهية" وعلى "التكوين العرقي" لواحدة من أبرز دول المنطقة وأكثرها تطوّراً. يُذكر أنّ السويد، تُعَدّ صناعياً الرائدة اسكندنافياً ومجتمعها شأنه شأن المجتمعات الجارة، لا سيّما في النرويج والدنمارك، كان مصدّراً للمهاجرين نحو شمال القارة الأميركية قبل أن يصير مجتمعاً مستقبلاً للهجرة. وذلك منذ الحرب العالمية الثانية على أقل تقدير، من خلال مجموعات لاجئين فرّت من جحيم الحرب، إلى جانب مجموعات يهودية جرى تهريبها من ملاحقة النازية، لتفتح السويد بعد ذلك أبوابها أمام اليد العاملة الأجنبية والمهاجرين للمساهمة في نهضتها الصناعية والاقتصادية.
بدايات اندماج (دايفيد راموس/ Getty) |
قبل أعوام قليلة فقط، بدأ السجال حول المجتمعات المهاجرة في السويد، خصوصاً مع التدفق الكبير للاجئين، تحديداً من خارج أوروبا أو المصنّفين "مهاجرين بخلفيات غير غربية". و"تابو" جدال الهجرة والأصل، لم يكن منتشراً مثلما كان في الدنمارك على سبيل المثال، وثمّة عوامل ثقافية وتاريخية لعبت دوراً في ذلك، إلى أن بات طرحه أمراً إشكالياً. على الرغم من تقدّم السويد الصناعي، ظلّت البلاد تحافظ على ثقافة خاصة بها، وكان بعضهم يظنّ أنّ السويديين بمعظمهم يساريّون لشدّة الانفتاح على الثقافات الأخرى. لكنّ تلك الثقافة الخاصة التي ساهم في ترسيخها يسار ستينيات القرن الماضي وسبعينياته بالتأكيد، باتت مثار بحث منذ عقد ونصف العقد.
واليوم، يبدو السجال مفتوحاً ومتاحاً أمام الجميع، حتى في صفوف المجتمعات من أصول مهاجرة، من قدماء المهاجرين، بعدما ظلّ محصوراً في أوساط نخبوية مغلقة ذات توجّهات قومية، وأحياناً ثقافية قلقة. وتظهر دراسات عدّة، بما فيها استطلاعات حول تغيّر توجهات الأحزاب، أنّ سؤال الهجرة لم يعد حكراً على حزب "ديمقراطيي السويد" الذي يقوده جيمي أوكِسون، والذي كان قد عبّر عن معارضته الباكرة خلال الأعوام الثلاثة الماضية لاستقبال بلده نحو 244 ألف مهاجر. يُذكر أنّ الهجرة تصدّرت بكسر "التابو" ما عداها من قضايا المجتمع الاسكندنافي، قبيل الانتخابات العامة في السويد المزمع إجراؤها يوم الأحد المقبل في التاسع من سبتمبر/ أيلول الجاري.
بالمقارنة مع جارتها الدنمارك التي استقبلت 36 ألف لاجئ منذ عام 2015، فإنّ السويد استقبلت في المدّة الزمنية نفسها 244 ألفاً و178 لاجئاً ومهاجراً، بحسب ما تفيد أرقام رسمية صادرة عن مصلحة الهجرة. ويشير المصدر الرسمي نفسه إلى أنّ البلد استقبل منذ عام 2000 أكثر من 700 ألف لاجئ. وعلى الرغم من تشديد قوانين اللجوء بعد ذلك التدفق والإجراءات المتخذة لحماية الحدود، فقد مُنحت 47 ألفاً و963 إقامة لمّ شمل منذ عام 2015 لعائلات اللاجئين، أيّ نحو 40 في المائة من المجموع.
في العام الماضي، أظهرت وكالة الإحصاء السويدية الرسمية أنّ نحو ربع السكان (24 في المائة) هم من أصول أجنبية، وهي نسبة زادت نحو 10 في المائة خلال 10 أعوام. وفي تقسيم نسب سكان المدن، تتصدّر محافظة استوكهولم المشهد، إذ إنّ 32 في المائة من سكانها هم من أصول أجنبية. إلى ذلك، فإنّ 16 في المائة من سكان السويد هم من أصول أجنبية غير أوروبية أو غربية، وفقاً لتصنيفات جارتها الدنمارك، إذ إنّ السويد لا تشير إلى "غربي" ولا إلى "غير غربي".
تجدر الإشارة إلى أنّ قضية "الأصل" ظلّت أمراً حساساً لا يُثار لأعوام طويلة. وقد ساهم في ذلك مهاجرون ناشطون وفاعلون في مجتمعهم، بعضهم لا يعرف وطناً آخراً غير السويد، بدعم سياسي يساري ومن يسار الوسط، إلى جانب طبقة ثقافية ومجتمعية راحت تراجع ثقافة البلد وآدابه لتنقيحهما والتخلّص من كلّ مسّ باللون أو العرق أو الأصل، بما في ذلك أدب الأطفال.
منذ الانتخابات الأخيرة في البلاد (2014) قبل تدفّق اللاجئين الكبير، بات المحظور مسموحاً بعد خطاب حزب ديمقراطيي السويد، وما تبعه من تغيّر في خطابات أحزاب يمين الوسط، والتشديدات التي أدخلت على قوانين الإقامة من حكومة يسار الوسط بزعامة ستيفان لوفين، واشتعال أزمة أوروبا مع غياب تقاسم مهمة دمج الوافدين. وقد رصدت الاستطلاعات منذ نحو عام تغيّرات كثيرة، حتى في صفوف ربع السكان الذين هم من أصول مهاجرة، تشكيك بقدرة السويد على دمج كل هؤلاء الذين وفدوا إليها، وفي الوقت نفسه ارتفعت أصوات تشكك بـ"ثقافة الوافدين" و"قدرتهم على التأقلم". وعلى تلك الخلفية، شهد مجتمع السويد تغيّرات كثيرة في الشارع وعلى المستويات الاجتماعية وفي خطاب الأحزاب وبرامجها واتجاهات الصحافة والنخب الثقافية.
باتت التغيّرات المجتمعية في السويد تنعكس في طريقة التعاطي مع مسألة النظام والقانون. فحزب ديمقراطيي السويد استطاع تجيير الأخبار السيئة حول ربط زيادة الجرائم بمجتمعات المهاجرين. وقد انعكست قدرة هذا الحزب كذلك على خطاب سياسيي أحزاب يمين الوسط التقليدية، مثل حزب الاعتدال الليبرالي المحافظ، على الرغم من غياب مؤشّرات علمية شاملة دالة على هذا الارتباط بين المهاجرين وتزايد نسب الجرائم منذ عام 2005.
والأخبار السيئة في الضواحي التي تعاني، وسكانها في معظمهم من أصول مهاجرة ولاجئة، تبقى المخزون الذي يغرف منه اليمين. مالمو (جنوب غرب) على سبيل المثال، لم تكن وحدها التي عانت من جرّاء إطلاق نار ومواجهات بين عصابات شبابية وحرق سيارات السكان. وخلال سبعة أعوام، بحسب تقارير الشرطة السويدية، ارتفعت نسبة القتل بإطلاق النار 120 في المائة. وذهبت دراسات واستطلاعات أخيرة أعدّها "مجلس الوقاية من الجريمة" إلى تقديم أرقام مفزعة عن انتشار حالات الاغتصاب. وقد عبّرت 30 في المائة من النساء أنهنّ يشعرن بعدم الأمان عند التجوّل ليلاً، وتصل النسبة إلى 19 في المائة لدى مجموع سكان السويد. والدراسة الصادرة عن المجلس تغطّي عام 2017 وتقدّم صورة قاتمة عن مشاعر السويديين. فنحو 38 في المائة قيّموا أمنهم "سلبياً جداً" خلال الأعوام الثلاثة الماضية، و29 في المائة قيّموه "سلبياً إلى حد كبير".
في السياق، يذهب نينو سانندجي (من أصول إيرانية) وهو واحد من أشهر متناولي قضايا الهجرة والمتخصص في الاقتصاد القومي ومؤلف كتاب "تحد شامل" عن تأثير الهجرة على السويد، إلى اتهام علماء الاجتماع والجريمة بأنّهم شديدو التسييس، ويدّعون أنّ لا أسس علمية لاستنتاجات غيرهم حين يتعلق الأمر بالمهاجرين، وهم يبنون خلاصاتهم على أساس رأيهم بالعالم المفضّل لديهم. ويرى سانندجي أنّ ربط الجرائم والتمثيل النسبي المرتفع في الإحصاءات بالخلفية الثقافية هو "مزيج سام".