يوم سيطرة الحوثيين على صنعاء (21 سبتمبر 2014)، أي انقلابهم على الحكومة، هو اليوم نفسه الذي تمّ فيه تنصيب محمد البدر كآخر إمام لشمال اليمن في سبتمبر من عام 1962. وبعد خمسة أيام، انطلقت ثورة 26 سبتمبر التي أنهت حكم الأئمة الثيوقراطي، وأعلنت قيام الجمهورية الوحيدة في شبه الجزيرة العربية إلى اليوم، والتي احتاج تثبيت أركانها إلى ثماني سنوات من الحرب الأهلية، انتهت بمصالحة وطنية عام 1970، فيما كانت صعدة (معقل جماعة الحوثيين) آخر محافظة يمنية تعترف بالنظام الجمهوري وتخضع له يومها. ويرى الكثير من اليمنيين أن هذا التاريخ الذي سيطر الحوثيون فيه على صنعاء لم يكن مجرد صدفة، بل تاريخاً مدروساً لاستعادة حكم الأئمة في اليوم الذي نصب فيه آخرهم على عرش صنعاء.
ومع سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمينة، عادت الاحتفالات بالمناسبات التي كان نظام الأئمة يحييها، ورفعت الشعارات التي تمّ حظرها منذ فجر الثورة، وغابت عن المشهد اليمني خمسة عقود. فقد أعاد الحوثيون خطاب الولاية الدينية لآل البيت الذي رفعه الأئمة طوال قرون من حكمهم المتقطع لليمن، وعادت مناسبات دينية (كربلاء، ويوم الغدير... إلخ) للظهور كمناسبات رسمية، تلقى فيها الخطابات من قبل أعلى قيادات جماعة الحوثيين مستوى، ويتم فيها تصنيف اليمنيين بين مؤمن بها مرضي عنه من قبل الجماعة، ورافض لها تعتبره الأخيرة في صفّ خصومها ضمن المواصفات التي تطلقها لتحديد الفئة المؤمنة بعقيدتها الدينية.
ويثير هذا الأمر حساسية لدى اليمنيين الذين تعايشوا بمختلف مذاهبهم عندما غاب الخطاب التمييزي من قبل السلطة، وتقاتلوا فيما بينهم عندما تبنّت الأخيرة خطاباً يقسم الشعب إلى فئات ومستويات لا تتمتع بالمساواة التي كان تحقيقها أحد الأهداف الستة لثورة 26 سبتمبر 1962. وكانت هذه الثورة اختراقاً نادراً وقوياً لنادي الملكية والحكم الوراثي في الجزيرة العربية، وقد تحوّلت إلى حرب بالوكالة بين الأنظمة القومية التحررية العربية بقيادة مصر جمال عبد الناصر التي دعمت الثورة الجمهورية، والأنظمة الملكية الموالية للمعسكر الغربي بزعامة السعودية وإيران والأردن التي دعمت الملكية، وكانت منطلقاً لكفاح جنوب اليمن ضدّ الاحتلال الإنكليزي أيضاً. وما زال اليمنيون يبنون مواقفهم تجاه الدول المجاورة حسب موقفها من ثورتهم الأم إلى اليوم.
كذلك، كانت ثورة سبتمبر 1962 بؤرة نضال جمعت اليمنيين من حضرموت وردفان وعدن وغيرها في جنوب اليمن مع محافظات الشمال، وقاتل الجنوبي مع الشمالي في جبهة واحدة من دون تمييز. وكما كانت عدن تحتضن الثوار الفارين من حكم الأئمة، أصبحت تعز بعد سبتمبر 1962، تحتضن تدريبات ثوار الجنوب ضدّ الاحتلال الإنكليزي. وبالتالي، فإنّ الجمهورية هي الأساس الذي قامت عليه الوحدة، وسقوطها تحت أي شعار، يجعل انهيار الوحدة نتيجة حتمية. ولهذا، يزداد الحرص على حماية الجمهورية والاحتفاء بثورتها، لأن الصراع الراهن رفع حدّة الخطاب الانفصالي للجنوب، بل ورفع شعارات مضللة تنفي يمنيته، وتتبنى تسمية الجنوب العربي، الاتحاد الذي أقامه الإنكليز لبعض مناطق الجنوب قبل رحيلهم عن اليمن.
هذه المعطيات تعزّز فرضية ارتداد الجنوب إلى مرحلة الاستعمار الإنكليزي، وهو ما يعني التراجع عن ثورة 14 أكتوبر/تشرين الأوّل من عام 1963 التي قامت ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب، وكذلك ارتداد الشمال إلى مرحلة حكم الأئمة القائم على التمييز ومنح فئة معينة من اليمنيين حصرياً حقّ الحكم، وهذا يعني التراجع عن ثورة 26 سبتمبر. فقد ظهر من يسمي جنوب اليمن بالجنوب العربي، في حين أنه في الذكرى 55 لثورة 26 سبتمبر، ظهر في صنعاء من يصدر كتاباً يصف فيه هذه الثورة بـ"المزعومة" ويسميها بالانقلاب (كتاب "الجمهورية المزعومة في اليمن" للكاتب جمال الشامي الذي صدرت النسخة الأولى منه عام 2017)، ويمجد حكم الأئمة الذي قامت ضده هذه الثورة، وتروج له جهات تابعة لجماعة الحوثيين التي خططت بدقة لـ21 سبتمبر 2014.
في الأسبوع الثالث من سبتمبر 2014، نقلت طائرة مروحية المبعوث الأممي إلى اليمن وقتها، جمال بنعمر، وطاقمه إلى صعدة، للقاء زعيم "أنصار الله"، عبد الملك الحوثي، وقد ظلّ فيها أياماً للتفاوض حول صيغة اتفاق سياسي ينهي الأزمة التي صعّدها الحوثيون ضد الرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته. إلا أنّ مواعيد إعلان الاتفاق تغيّرت أكثر من مرة، بينما كانت قوات الحوثي تجتاح العاصمة بقوة السلاح.
في 19 سبتمبر، سيطر الحوثيون على اللواء الرابع المسؤول عن حماية التلفزيون اليمني الرسمي، واستبسل جنود الحماية في الدفاع عنه بقوة، على الرغم من قطع الإمداد عنهم، بعد زيارة وزير الدفاع يومها محمد ناصر أحمد للموقع، ليسقط في يد الحوثيين، وتستخدم أسلحته الثقيلة ومنها قرابة 14 دبابة ومدرعة في مهاجمة الفرقة الأولى مدرع، ثمّ تستمرّ الجماعة في تقدّمها للسيطرة على المؤسسات السيادية الأخرى.
تزامن ذلك مع صمت الرئيس عبد ربه منصور هادي، والدول الراعية للمبادرة الخليجية من دول الخليج وتلك دائمة العضوية بمجلس الأمن. وكان هادي قد زار عمران عندما أسقطها الحوثيون قبل شهرين من إسقاط صنعاء، ما يعني مباركة لفعلهم، وظهر وزير دفاعه محمد ناصر أحمد في مناطق قتال مع أبو علي الحاكم القيادي العسكري الحوثي الشهير.
على إثر ذلك، رأى الكثير من اليمنيين أنّ منح الحوثيين الوقت للسيطرة على صنعاء قبل توقيع ما عرف باتفاق "السلم والشراكة" مساء 21 سبتمبر، كان متعمداً، وأنّ السعودية وأميركا والمبعوث الأممي قد منحوا الضوء الأخضر لجماعة "أنصار الله" للتقدّم من صعدة إلى العاصمة اليمينة من دون عرقلة، خصوصاً بعد أن زار وزير دفاع هادي واشنطن في تلك الفترة، وعاد بإعلان حياد الجيش في القتال الحاصل، بذريعة أنّه صراع بين الحوثيين وحزب "الإصلاح". وبالتالي، فقد كان سقوط صنعاء عملية تسليم للحوثي بتواطؤ من الجميع، وانحراف المسار لاحقاً كان بسبب خلافات بين من تواطأ على إسقاط صنعاء، فيما كان الهدف وما زال تحويل الصراع إلى طرفين يتبنى كل منهما خطاباً ومنهجاً دينياً سياسياً، هما حزب "الإصلاح" وجماعة الحوثيين.
ويومها كان شعار الحوثيين هو تغيير الحكومة، وإلغاء زيادة فرضها هادي على أسعار الوقود، وهو ما تمّ فعلاً، ولم تصِف الجماعة ما جرى بأنه ثورة إلا بعد توسّع دائرة الصراع وتدخّل التحالف، بعد أن سيطر الحوثيون على دار الرئاسة، ووضعوا هادي تحت الإقامة الجبرية.
منذ دخول الحوثيين صنعاء، اقتصر إحياء ذكرى ثورة 26 سبتمبر 1962 على بعض المظاهر السطحية في بعض المدن، ومنها العاصمة. ولكن لا يرقى إحياء صنعاء لهذه المناسبة إلى أصغر مناسبة خاصة بالجماعة، وهي مناسبات ذات شعارات تتناقض كلياً مع شعارات وأهداف ثورة 26 سبتمبر ذاتها. ويرى البعض أنّ ذلك عملية تخدير مؤقت للشعب اليمني يتم فيها فرض مناسبات وشعارات تتناقض مع ثورته الأم، حتى تسود مناسبات الجماعة وحدها. فمنذ خمس سنوات، ارتفعت من عام لآخر وبشكل تدريجي، درجة إحياء وتعبير الحوثيين عن مناسباتهم الطائفية الخاصة التي تعزز جميعها ما تعتبره الجماعة حقها في حكم اليمنيين بطريقة لا تمرّ عبر صناديق الانتخاب، بل عبر كتب التراث الديني، ولن تتوقف قبل أن تمحو مناسبات اليمنيين الوطنية.
لم تغب مظاهر سبتمبر الثورة من مساواة وتعددية وحرية نسبية وتجربة ديمقراطية لا بأس بها، بل وغابت كل الخدمات المتواضعة التي ميزت ما بعد سبتمبر 1962 عمّا قبله حتى سنوات قليلة مضت.
ليلة 21 سبتمبر 2019، تمّ إيقاد شعلة الثورة التي لا يؤمن بها غير الحوثيين، في ميدان التحرير الذي انطلقت منه ثورة 26 سبتمبر وأطلقت منه القذيفة الأولى على دار البشائر، قصر الإمام محمد البدر. وعلى مدار عقود، كان هذا الميدان يشهد إيقاد شعلة 26 سبتمبر وحدها، وشهد إجراء الحوثيين المتزامن مع إعلان يوم 21 سبتمبر إجازة رسمية في المناطق الخاضعة لهم، ردود فعل علنية رافضة بقوة حتى من قبل مواطنين يعيشون تحت سيطرتهم، وانطلقت وسوم على موقع "تويتر" تصف يوم 21 سبتمبر بالنكبة، بينما انتشرت شعارات تمجّد ثورة 26 سبتمبر من قبل أفراد ومؤسسات وقنوات تلفزيونية.
وفي السياق، كتبت الناشطة الشابة مزن سنان، عبر حسابها بموقع "فيسبوك": "الإجازة الوحيدة اللي ما اشتيهاش (لا أريدها)، ومنتظرة بفارغ الصبر متى أداوم بذا اليوم"، تعبيراً عن رفضها لإعلان يوم 21 سبتمبر إجازة رسمية، وانتظارها الدوام فيه، أي انتهاء سيطرة الحوثيين على السلطة. بدوره، كتب جلال الحلالي، عبر حسابه بموقع "فيسبوك" أيضاً، ضمن منشورات احتفائية مستمرة بثورة 26 سبتمبر من قبله: "شكراً 21، شكراً لأنك عرفتنا قيمة 26، شكراً أيها البائس".
وكتب الشاعر أوس الإرياني على حسابه بالموقع الأزرق ساخراً: "الشكر لثورة 21 التي قامت إثر محاولة الفار هادي رفع سعر البترول إلى 3500، تخيلوا اليوم عبيت من السوق السوداء بـ18000". كذلك كتب الصحافي عبد القادر سعد: "في مثل هذا اليوم قبل 5 سنوات كنت استلم راتبي"، فيما قال الصحافي محمد الظاهري "لم يمر 21 سبتمبر على اليمنيين منذ خمس سنوات، وما فيش أزمة وبلاوي زرقاء".
وفي عدن الخاضعة لمليشيات المجلس الانتقالي الجنوبي الموالي للإمارات، كتب الصحافي رضوان فارع "الأخوة في المجلس الانتقالي، هل يسمحون لنا كمواطنين يمنيين في عدن، بإقامة احتفال في المدينة بذكرى ثورة 26 سبتمبر؟"، فقد أصبحت هذه الثورة مناسبة خاصة بالشمال، بعد أن كانت ثورة يمنية مجدها الجنوب قبل الشمال، ودعمها بالمقاتلين الذين عادوا إلى الجنوب لإشعال ثورة 14 أكتوبر ضدّ الاستعمار.
وغرد الصحافي فارس الحميري على "تويتر"، قائلاً: "قبل اجتياح الحوثيين العاصمة صنعاء، كانت تصدر أكثر من 50 مطبوعة، منها صحف يومية وأسبوعية ومجلات شهرية ودورية، اليوم يفرض الحوثيون خطّ تحرير واحدا في صنعاء، وجميع المناطق الخاضعة لسيطرتهم".
الكاتب محمد عزان، أحد رفاق مؤسس الجماعة حسين الحوثي الذي انشق عنها فيما بعد، غرّد أيضاً على "تويتر" قائلاً: "منذ أيامها الأولى، اتجهت نكبة 21 سبتمبر نحو إرهاب الفرقاء السياسيين، فاحتلت مقرات الأحزاب وحاصرت منازل قادتها ولاحقت نشطاءها، وصادرت وسائل الإعلام، وبذلك دشّنت مرحلة استبداد سياسي لا يقبل بشريك...".
حتى أن الصحافي محمد عايش، الذي كان يعدّ أحد أبرز المنظرين لاجتياح الحوثيين لصنعاء ومدافعاً عن انقلابهم، كتب على "تويتر" متسائلاً، "كان لدينا دولة فسقطت… ووحدة فانهارت… وسيادة وطنية فتهاوت... وديمقراطية وتعددية سياسية وأحزاب وانتخابات وصحافة ومنظمات... فتلاشت. فبأي لعنة من اللعنات الأربع يحتفل الحوثيون يوم 21 سبتمبر؟!". وأضاف عايش، الذي اضطر إلى مغادرة صنعاء على غرار معظم الذين عادوا لاتخاذ مواقف نقدية من الجماعة بعد التبرير لها، "العبرة بالنتائج وبما سيقوله التاريخ... لا بمقدمات الزيف واحتفالات قلة العقل".
ودشّن الكاتب ثابت الأحمدي وغيره كثيرون، حملة على "فيسبوك"، للتعريف بقادة ثورة 26 سبتمبر 1962، شملت عرض سيرتهم وأدوارهم في الثورة، فيما رفع نشطاء وصحافيون في المحافظات الجنوبية شعارات تمجّد ثورة سبتمبر والجمهورية اليمنية، كرفض للخطاب الانفصالي للمجلس الانتقالي.
في المقابل، كتب وزير الرياضة في حكومة الحوثيين بصنعاء، حسن زيد، أن "أي معارضة مهما كانت دوافعها نبيلة لنظام يقود ويواجه عدوانا كالذي نواجهه، خيانة عظمى ترقى إلى مستوى المشاركة في العدوان". وقد تعرّض على إثر ذلك لحملة انتقاد واسعة، باعتباره يكرّس الصورة الحقيقية لجماعته التي ترفض الآخر، ولا تؤمن بالاختلاف والتعايش.
ولم يهتم اليمنيون، خصوصاً الأدباء والشعراء والصحافيين والفنانين، بحدث في التاريخ، كما اهتموا بثورة 26 سبتمبر 1962. لكن هذه الثورة التي نقلت اليمن إلى عتبات العصر الجديد من دون أن تدخله فعلياً إلى اليوم، قد تعرّضت لعمليات إجهاض مبكر منذ نشأتها، واستمرت هذه المحاولات إلى يومنا هذا، ولم تفشلها سوى إرادة المواطن اليمني وإيمانه بثورته. لكنّ ما تتعرض له هذه الثورة في الوقت الحالي، أكثر خطورة وقوة، لأنه يتم من قبل جماعة مسيطرة على السلطة، ترفع شعارات خاصة بها كانت سبباً في القيام بالثورة قبل ستة عقود.
على الطرف الآخر المناهض نظرياً للحوثيين، تقف أنظمة ملكية كالسعودية التي دعمت الأئمة ضدّ الثورة والجمهورية لسنوات، وعملت على إضعاف الدولة اليمنية لعقود، وهي ليست أقلّ حرصاً على تلاشي شعارات وأهداف ومبادئ ثورة 26 سبتمبر من خصومها الحوثيين، بينما لا دولة حقيقية تدافع عن الثورة وتحميها. ولكن قد يكون التفاعل الشعبي غير الموجه، وبجهود واجتهادات فردية لإحياء هذه المناسبة وحمايتها من التشويه والاستهداف، أقوى من كل قوة وسلطة، على الأقل لحماية الفكرة حتى تأتي شخصيات يمنية بحجمها وليست دونها كنخبة اليوم الهلامية.